جابر بن حيان
صفحة 1 من اصل 1
جابر بن حيان
جابر بن حيّان.. مؤسس علم الكيمياء
وصفه ابن خلدون في مقدمته وهو بصدد الحديث عن علم الكيمياء فقال: "إمام المدونين فيها جابر بن حيان، حتى إنهم يخصونها به فيسمونها "علم جابر"، وله فيها سبعون رسالة"[1].
إنه أبو موسى جابر بن حيان بن عبد الله الأزدي، نسبة إلى قبيلة أزد اليمنية التي هاجر البعض منها إلى الكوفة بعد انهيار سد مأرب. وُلِدَ في (طوس) واستقرَّ في بغداد بعد قيام الدولة العباسية، وتوثقت علاقته بأسرة البرامكة الفارسية، وامتدت حياته ما بين (103 - 200هـ/ 721 - 815م)[2].
يُعَدّ مؤسس علم الكيمياء التجريبي؛ فهو أول من استخلص معلوماته الكيميائية من خلال التجارب والاستقراء والاستنتاج العلمي، وكان غزير الإنتاج والاكتشافات، حتى إن الكيمياء اقترنت باسمه فقالوا: "كيمياء جابر"، و"الكيمياء لجابر"، وكذلك: "صنعة جابر". كما أُطلق عليه أيضًا "شيخ الكيميائيين" و"أبو الكيمياء".
فقبل جابر كان هناك مجموعة من المهن البدائية القديمة، وقد اختلطت مع كثير من الحرف، كالتحنيط (في مصر القديمة) والدِّباغة، والصباغة والتعدين واستخلاص الزيوت، لكن جابر بن حيان استطاع أن يطوِّر الكيمياء ويرفعها من تلك المنزلة البدائية التي كانت عليها إلى منزلة عالية، وذلك بإضافته للكثير من المعارف النظرية والعلمية، وإرسائه أسسَ وأصولَ تحضير المواد الكيميائية والتعامل معها؛ لذلك يُعتَبَر ابنُ حيان شيخ الكيميائيين بلا منازع[3].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] مقدمة ابن خلدون 1/322.
[2] راجع ابن النديم: الفهرست ص420، الزِّركلي: الأعلام 2/103، محمد علي عثمان: مسلمون علَّموا العالم ص64، أكرم عبد الوهاب: 100 عالم غيروا وجه العالم ص17.
[3] انظر أكرم عبد الوهاب: 100 عالم غيروا وجه العالم ص17.
بداية الكيمياء والمنهج العلمي عند جابر
بدأت الكيمياء خرافية تستند على الأساطير البالية، حيث سيطرت فكرة تحويل المعادن الرخيصة إلى معادن نفيسة؛ وذلك لأن العلماء في حضارات ما قبل الإسلام كانوا يعتقدون أن المعادن المنطرقة مثل الذهب والفضة والنحاس والحديث والرصاص والقصدير من نوع واحد، وأن تباينها نابع من الحرارة والبرودة والجفاف والرطوبة الكامنة فيها، وهي أعراض متغيرة (نسبة إلى نظرية العناصر الأربعة: النار والهواء والماء والتراب)؛ لذا يمكن تحويل هذه المعادن من بعضها البعض بواسطة مادة ثالثة وهي الإكسير. ومن هذا المنطلق تخيل بعض علماء الحضارات السابقة للحضارة الإسلامية أنه بالإمكان ابتكار إكسير الحياة أو حجر الحكمة الذي يزيل علل الحياة ويطيل العمر[1]، وهذا ما كان يُسَمَّى بعلم الخيمياء.
وقد تأثَّر بعض العلماء العرب والمسلمين الأوائل كجابر بن حيان وأبي بكر الرازي بنظرية العناصر الأربعة التي ورثها علماء العرب والمسلمين عن اليونان، لكنهما قاما بدراسة علمية دقيقة لها؛ أدَّت هذه الدراسة إلى وضع وتطبيق المنهج العلمي التجريبي في حقل العلوم التجريبية.
وعن هذا المنهج التجريبي كان يقول جابر: "ومِلاك كمال هذه الصنعة العمل والتجربة؛ فمن لم يعمل ولم يجرِّب لم يظفر بشيء أبدًا"[2].
وفي كتاب الخواص الكبير المقالة الأولى يقول: "إننا نذكر في هذه الكتب خواص ما رأيناه فقط دون ما سمعناه، أو قيل لنا وقرأناه، بعد أن امتحنّاه وجرَّبناه، فما صحَّ أوردناه، وما بطل رفضناه، وما استخرجناه نحن أيضًا قايسناه على أحوال هؤلاء القوم"[3].
ولذلك يُعَد جابر أول من أدخل التجربة العلمية المخبرية في منهج البحث العلمي الذي أرسى قواعده، وكان أحيانًا ما يُسمي التجربة بالتدريب، فكان يقول: "فمن كان دَرِبًا كان عالمًا حقًا، ومن لم يكن دَرِبًا لم يكن عالمًا، وحسبُك بالدربة في جميع الصنائع أن الصانع الدَّرِب يحذق، وغير الدَّرِب يعطل"[4]!!
وعليه قطع جابر خطوة أبعد مما قطع اليونان في وضع التجربة أساس العمل لا اعتمادًا على التأمل الساكن.
لقد كانت أعمال جابر القائمة على التجربة المعملية أهم محاولة جادة قامت آنذاك لدراسة الطبيعة دراسة علمية دقيقة؛ فهو أول من بشَّر بالمنهج التجريبي المخبري، وتكاد الإجراءات التي كان يتبعها في أبحاثه تطابق ما يقوم به المشتغلون بالمنهج العلمي اليوم؛ وتتلخص إجراءاته في خطوات ثلاث:
الأولى: أن يأتي الكيميائي بفرض يفرضه من خلال مشاهداته، وذلك حتى يفسر الظاهرة التي يريد تفسيرها.
الثانية: أن يستنبط مما افترضه نتائج تترتب عليه نظريًا.
الثالثة: أن يعود بهذه النتائج إلى الطبيعة ليتثبت ما إذا كانت ستصدق على مشاهداته الجديدة أم لا؛ فإن صدقت تحولت الفرضية إلى قانون علمي يُعوَّل عليه في التنبؤ بما يمكن أن يحدث في الطبيعة إذا توافرت ظروف بعينها[5].
ولقد اهتم هولميارد Holmyard بأعمال جابر ومنهجه العلمي ومؤلفاته، وعكف على إبراز القيمة العلمية لعمله، وتراه بعد ذلك يقول: "إن الصنعة الخاصة عند جابر هي أنه قد عرف وأكَّد على أهمية التجريب بشكل أوضح من كل من سبقه من الخيميائيين"[6].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر علي عبد الله الدفاع: روائع الحضارة العربية الإسلامية ص274، وانظر في الموضوع أيضًا: جلال مظهر: حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي، مكتبة الخانجي - القاهرة ص268، 269 .
[2] جابر بن حيان: كتاب التجريد، ضمن مجموعة حققها ونشرها هولميارد بعنوان: مصنفات في علم الكيمياء للحكيم جابر بن حيان، باريس 1928م.
[3] جابر بن حيان: كتاب الخواص الكبير ص232، ضمن مجموعة كراوس.
[4] جابر بن حيان: كتاب السبعين ص464، ضمن مجموعة كراوس.
[5] انظر حكمت نجيب: دراسات في تاريخ العلوم عند العرب ص266، جلال مظهر: حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي ص278، 279، أكرم عبد الوهاب: 100 عالم غيروا وجه العالم ص17.
[6] عمر فروخ: تاريخ العلوم عند العرب ص251.
جابر بن حيان.. أوَّليات وإنجازات
قام جابر بإجراء كثير من العمليات المخبرية، كان بعضها معروفًا من قبلُ فطوَّره، وأدخل عملياتٍ جديدة. ومن الوسائل التي استخدمها: التّبخُّر، والتقطير[1]، والتبلُّر[2]، والتسامي[3]، والترشيح[4]، والصَّهر، والتكثيف، والإذابة، ودرس خواص بعض المواد دراسة دقيقة؛ فتعرف على أيون الفضة النشادري المعقد[5].
كما قام بتحضير عدد كبير من المواد الكيميائية، فهو أول من حضَّر حمض الكبريتيك بالتقطير من الشَّب، وحضَّر أكسيد الزئبق، وحمض النتريك؛ أي ماء الفضة، وكان يسميه الماء المحلل أو ماء النار، وحضر حمض الكلوريدريك المسمَّى بروح الملح، وهو أول من اكتشف الصودا الكاوية، وأول من استخرج نترات الفضة وقد سمّاها حجر جهنم، وثاني كلوريد الزئبق (السليماني)، وحمض النتروهيدروكلوريك (الماء الملكي)، وسُمِّي كذلك لأنه يذيب الذهب ملك المعادن.
وهو أول من لاحظ رواسب كلوريد الفضة عند إضافة ملح الطعام إلى نترات الفضة، كما استخدم الشب في تثبيت الأصباغ في الأقمشة، وحضَّر بعض المواد التي تمنع الثياب من البلل؛ وهذه المواد هي أملاح الألومنيوم المشتقة من الأحماض العضوية ذات الأجزاء الهيدروكربونية، ومن استنتاجاته أن اللهب يُكسِب النحاس اللون الأزرق، بينما يكسب النحاس اللهب لونًا أخضر. وهو أول من فصل الذهب عن الفضة بالحل بوساطة الحمض، وشرح بالتفصيل عملية تحضير الزرنيخ، وتنقية المعادن، وصبغ الأقمشة[6].
ويُعزَى إليه أنه أولُ من استعمل الميزان الحساس والأوزان متناهية الدقة في تجاربه المخبرية؛ وقد وزن مقادير يقل وزنها عن1/100 من الرطل، ويُنسَب إليه تحضير مركبات كل من كربونات البوتاسيوم والصوديوم والرصاص القاعدي والإثمد (الأنتيمون)، كما استخدم ثاني أكسيد المنجنيز لإزالة الألوان في صناعة الزجاج، كما بلور جابر النظرية التي مفادها أن الاتحاد الكيميائي يتم باتصال ذرات العناصر المتفاعلة مع بعضها، ومثَّل على ذلك بكلٍّ من الزئبق والكبريت عندما يتحدان ويكونان مادة جديدة. وقد كان يجري معظم تجاربه في مختبر خاص اكتُشِف في أنقاض مدينة الكوفة في أواخر القرن الثاني عشر الهجري، الثامن عشر الميلادي[7].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] هو فصل الجسم المراد تحضيره بتصعيده إلي بخار ثم تكثيفه إلي سائل.
[2] هو فصل البلورات من ماء البحر المالح والحالات المشابهة.
[3] هو فصل الجسم الطيار بتسخينه حيث يتكاثف بخاره إلي مادة صلبة دون المرور على الحالة السائلة.
[4] تمكَّن بواسطة منخل أو قطعة قماش أن يرشح كثيرًا من المواد.
[5] انظر حكمت نجيب: دراسات في تاريخ العلوم عند العرب ص266، جلال مظهر: حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي ص280، 281.
[6] انظر في ذلك: جلال مظهر: حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي ص281.
[7] راجع في إنجازات جابر: الأعلام 2/104، أكرم عبد الوهاب: 100 عالم غيروا وجه العالم ص17، علي عبد الله الدفاع: روائع الحضارة العربية الإسلامية ص275، عبد الحليم منتصر: تاريخ العلم ودور العلماء العرب في تقدمه ص105، 106- الموسوعة العربية العالمية على شبكة الإنترنت، الرابط:
http://www.mawsoah.net/gae_portal/maogen.asp?main2&articleid=!جابر%20بن%20حيان!329556_
مؤلَّفات جابر
في مجمل مصنفاته يقول لوبون G. Lebon: "تتألف من كتب جابر موسوعة علمية تحتوي على خلاصة ما وصل إليه علم الكيمياء عند العرب في عصره، وقد اشتملت كتبه على بيان مركبات كيميائية كانت مجهوله قبله"[1].
فقد كان لجابر بن حيان العديد من المؤلفات العلمية، والتي تأثر بها الغرب ونقل عنها، حتى قرر ابن النديم أن له 306 كتابًا في الكيمياء بأسلوبه الخاص في أنحاء العالم، ورغم أن معظمها قد فُقِد، إلا أنه يوجد منها الآن ثمانون كتابًا محفوظًا في مكتبات الشرق والغرب، وقد تَرْجم معظمَ كتبه إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي روبرت الشستري (ت 539هـ / 1144م) وجيرار الكريموني (ت 583هـ / 1187م) وغيرهما، ومثّلت مصنفاته المترجمة الركيزة التي انطلق منها علم الكيمياء الحديث في العالم[2].
ويُعَدُّ كتاب (السموم ودفع مضارها) أشهر مؤلفات جابر ويقع في خمسة فصول، وفيه قسَّم السموم إلى حيوانية ونباتية وحجرية، وذكر الأدوية المضادة لها وتفاعلها في الجسم، وهذا الكتاب يعتبر همزة وصل بين الطب والكيمياء.
ومن أشهر كتبه أيضًا كتابه (الخواص الكبير)، ونسخته الأصلية موجودة في المتحف البريطاني.
وله أيضًا كتاب (التدابير)، وتعني العمل القائم على التجربة، وكتاب (الموازين)، وكتاب (الحديد) وفيه يصف جابر عملية استخراج الحديد الصلب من خاماته الأولى، كما يصف كيفية صنع الفولاذ بوساطة الصهر بالبواتق. ومن كتبه كذلك (نهاية الإتقان) وهو مؤلف رائد في الكيمياء، ورسالة (في الأفران).
وله أيضًا رسائل عن المرايا، كما ألَّف كتاب (السبعين) والذي يشمل سبعين مقالة حول أهم تجاربه في الكيمياء والنتائج التي توصل إليها، ويمكن اعتباره خلاصة ما وصل إليه علم الكيمياء عند العرب في عصره.
وله كذلك كتاب (الرحمة) ألَّفه في الخيمياء وتطرق فيه إلى إمكانية تحويل المعادن إلى ذهب، وكتاب (الجمل العشرون) و(أسرار الكيمياء) (وأصول الكيمياء)، وهذا غير مؤلفات أخرى في الرياضيات والفلسفة والشعر، وقد ترجمت بعض كتبه إلى اللاتينية مثل كتاب السبعين وكتاب الرحمة، وهناك كتب له باللاتينية لم يتم العثور على أصولها العربية، مثل: (البحث عن الكمال) و(كتاب العهد) و(كتاب الأتون)[3].
ولقد تُرجِمت كتب جابر إلى اللاتينية، وظلَّت المرجع الأوفى للكيمياء زهاء ألف عام، وكانت مؤلفاته موضع دراسة مشاهير علماء الغرب، أمثال: كوب، وبرثوليه، وكراوس، وهولميارد الذي أنصفه ووضعه في القمة، وبدَّد الشكوك التي أثارها حوله العلماء المغرضون. وأيضًا سارتون الذي أرَّخ به حقبة من الزمن في تاريخ الحضارة الإسلامية، يقول: "ما قدَّر جابر أن الكتب التي ألَّفها لا يمكن أن تكون من وضع رجل عاش في القرن الثاني للهجرة لكثرتها ووفرة ما بها من معلومات"[4].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] جوستاف لوبون: حضارة العرب ص25.
[2] راجع ابن النديم: الفهرست ص420، الأعلام 2/103، محمد علي عثمان: مسلمون علموا العالم ص64، أكرم عبد الوهاب: 100 عالم غيروا وجه العالم ص17.
[3] انظر في مؤلفاته: ابن النديم: الفهرست ص421 وما بعدها، الزركلي: الأعلام 2/103، أكرم عبد الوهاب: 100 عالم غيروا وجه العالم ص17، رحاب خضر عكاوي: موسوعة عباقرة الإسلام 4/29 وما بعدها .
[4] انظر عبد الحليم منتصر: تاريخ العلم ودور العلماء العرب في تقدمه ص106.
وصفه ابن خلدون في مقدمته وهو بصدد الحديث عن علم الكيمياء فقال: "إمام المدونين فيها جابر بن حيان، حتى إنهم يخصونها به فيسمونها "علم جابر"، وله فيها سبعون رسالة"[1].
إنه أبو موسى جابر بن حيان بن عبد الله الأزدي، نسبة إلى قبيلة أزد اليمنية التي هاجر البعض منها إلى الكوفة بعد انهيار سد مأرب. وُلِدَ في (طوس) واستقرَّ في بغداد بعد قيام الدولة العباسية، وتوثقت علاقته بأسرة البرامكة الفارسية، وامتدت حياته ما بين (103 - 200هـ/ 721 - 815م)[2].
يُعَدّ مؤسس علم الكيمياء التجريبي؛ فهو أول من استخلص معلوماته الكيميائية من خلال التجارب والاستقراء والاستنتاج العلمي، وكان غزير الإنتاج والاكتشافات، حتى إن الكيمياء اقترنت باسمه فقالوا: "كيمياء جابر"، و"الكيمياء لجابر"، وكذلك: "صنعة جابر". كما أُطلق عليه أيضًا "شيخ الكيميائيين" و"أبو الكيمياء".
فقبل جابر كان هناك مجموعة من المهن البدائية القديمة، وقد اختلطت مع كثير من الحرف، كالتحنيط (في مصر القديمة) والدِّباغة، والصباغة والتعدين واستخلاص الزيوت، لكن جابر بن حيان استطاع أن يطوِّر الكيمياء ويرفعها من تلك المنزلة البدائية التي كانت عليها إلى منزلة عالية، وذلك بإضافته للكثير من المعارف النظرية والعلمية، وإرسائه أسسَ وأصولَ تحضير المواد الكيميائية والتعامل معها؛ لذلك يُعتَبَر ابنُ حيان شيخ الكيميائيين بلا منازع[3].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] مقدمة ابن خلدون 1/322.
[2] راجع ابن النديم: الفهرست ص420، الزِّركلي: الأعلام 2/103، محمد علي عثمان: مسلمون علَّموا العالم ص64، أكرم عبد الوهاب: 100 عالم غيروا وجه العالم ص17.
[3] انظر أكرم عبد الوهاب: 100 عالم غيروا وجه العالم ص17.
بداية الكيمياء والمنهج العلمي عند جابر
بدأت الكيمياء خرافية تستند على الأساطير البالية، حيث سيطرت فكرة تحويل المعادن الرخيصة إلى معادن نفيسة؛ وذلك لأن العلماء في حضارات ما قبل الإسلام كانوا يعتقدون أن المعادن المنطرقة مثل الذهب والفضة والنحاس والحديث والرصاص والقصدير من نوع واحد، وأن تباينها نابع من الحرارة والبرودة والجفاف والرطوبة الكامنة فيها، وهي أعراض متغيرة (نسبة إلى نظرية العناصر الأربعة: النار والهواء والماء والتراب)؛ لذا يمكن تحويل هذه المعادن من بعضها البعض بواسطة مادة ثالثة وهي الإكسير. ومن هذا المنطلق تخيل بعض علماء الحضارات السابقة للحضارة الإسلامية أنه بالإمكان ابتكار إكسير الحياة أو حجر الحكمة الذي يزيل علل الحياة ويطيل العمر[1]، وهذا ما كان يُسَمَّى بعلم الخيمياء.
وقد تأثَّر بعض العلماء العرب والمسلمين الأوائل كجابر بن حيان وأبي بكر الرازي بنظرية العناصر الأربعة التي ورثها علماء العرب والمسلمين عن اليونان، لكنهما قاما بدراسة علمية دقيقة لها؛ أدَّت هذه الدراسة إلى وضع وتطبيق المنهج العلمي التجريبي في حقل العلوم التجريبية.
وعن هذا المنهج التجريبي كان يقول جابر: "ومِلاك كمال هذه الصنعة العمل والتجربة؛ فمن لم يعمل ولم يجرِّب لم يظفر بشيء أبدًا"[2].
وفي كتاب الخواص الكبير المقالة الأولى يقول: "إننا نذكر في هذه الكتب خواص ما رأيناه فقط دون ما سمعناه، أو قيل لنا وقرأناه، بعد أن امتحنّاه وجرَّبناه، فما صحَّ أوردناه، وما بطل رفضناه، وما استخرجناه نحن أيضًا قايسناه على أحوال هؤلاء القوم"[3].
ولذلك يُعَد جابر أول من أدخل التجربة العلمية المخبرية في منهج البحث العلمي الذي أرسى قواعده، وكان أحيانًا ما يُسمي التجربة بالتدريب، فكان يقول: "فمن كان دَرِبًا كان عالمًا حقًا، ومن لم يكن دَرِبًا لم يكن عالمًا، وحسبُك بالدربة في جميع الصنائع أن الصانع الدَّرِب يحذق، وغير الدَّرِب يعطل"[4]!!
وعليه قطع جابر خطوة أبعد مما قطع اليونان في وضع التجربة أساس العمل لا اعتمادًا على التأمل الساكن.
لقد كانت أعمال جابر القائمة على التجربة المعملية أهم محاولة جادة قامت آنذاك لدراسة الطبيعة دراسة علمية دقيقة؛ فهو أول من بشَّر بالمنهج التجريبي المخبري، وتكاد الإجراءات التي كان يتبعها في أبحاثه تطابق ما يقوم به المشتغلون بالمنهج العلمي اليوم؛ وتتلخص إجراءاته في خطوات ثلاث:
الأولى: أن يأتي الكيميائي بفرض يفرضه من خلال مشاهداته، وذلك حتى يفسر الظاهرة التي يريد تفسيرها.
الثانية: أن يستنبط مما افترضه نتائج تترتب عليه نظريًا.
الثالثة: أن يعود بهذه النتائج إلى الطبيعة ليتثبت ما إذا كانت ستصدق على مشاهداته الجديدة أم لا؛ فإن صدقت تحولت الفرضية إلى قانون علمي يُعوَّل عليه في التنبؤ بما يمكن أن يحدث في الطبيعة إذا توافرت ظروف بعينها[5].
ولقد اهتم هولميارد Holmyard بأعمال جابر ومنهجه العلمي ومؤلفاته، وعكف على إبراز القيمة العلمية لعمله، وتراه بعد ذلك يقول: "إن الصنعة الخاصة عند جابر هي أنه قد عرف وأكَّد على أهمية التجريب بشكل أوضح من كل من سبقه من الخيميائيين"[6].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر علي عبد الله الدفاع: روائع الحضارة العربية الإسلامية ص274، وانظر في الموضوع أيضًا: جلال مظهر: حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي، مكتبة الخانجي - القاهرة ص268، 269 .
[2] جابر بن حيان: كتاب التجريد، ضمن مجموعة حققها ونشرها هولميارد بعنوان: مصنفات في علم الكيمياء للحكيم جابر بن حيان، باريس 1928م.
[3] جابر بن حيان: كتاب الخواص الكبير ص232، ضمن مجموعة كراوس.
[4] جابر بن حيان: كتاب السبعين ص464، ضمن مجموعة كراوس.
[5] انظر حكمت نجيب: دراسات في تاريخ العلوم عند العرب ص266، جلال مظهر: حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي ص278، 279، أكرم عبد الوهاب: 100 عالم غيروا وجه العالم ص17.
[6] عمر فروخ: تاريخ العلوم عند العرب ص251.
جابر بن حيان.. أوَّليات وإنجازات
قام جابر بإجراء كثير من العمليات المخبرية، كان بعضها معروفًا من قبلُ فطوَّره، وأدخل عملياتٍ جديدة. ومن الوسائل التي استخدمها: التّبخُّر، والتقطير[1]، والتبلُّر[2]، والتسامي[3]، والترشيح[4]، والصَّهر، والتكثيف، والإذابة، ودرس خواص بعض المواد دراسة دقيقة؛ فتعرف على أيون الفضة النشادري المعقد[5].
كما قام بتحضير عدد كبير من المواد الكيميائية، فهو أول من حضَّر حمض الكبريتيك بالتقطير من الشَّب، وحضَّر أكسيد الزئبق، وحمض النتريك؛ أي ماء الفضة، وكان يسميه الماء المحلل أو ماء النار، وحضر حمض الكلوريدريك المسمَّى بروح الملح، وهو أول من اكتشف الصودا الكاوية، وأول من استخرج نترات الفضة وقد سمّاها حجر جهنم، وثاني كلوريد الزئبق (السليماني)، وحمض النتروهيدروكلوريك (الماء الملكي)، وسُمِّي كذلك لأنه يذيب الذهب ملك المعادن.
وهو أول من لاحظ رواسب كلوريد الفضة عند إضافة ملح الطعام إلى نترات الفضة، كما استخدم الشب في تثبيت الأصباغ في الأقمشة، وحضَّر بعض المواد التي تمنع الثياب من البلل؛ وهذه المواد هي أملاح الألومنيوم المشتقة من الأحماض العضوية ذات الأجزاء الهيدروكربونية، ومن استنتاجاته أن اللهب يُكسِب النحاس اللون الأزرق، بينما يكسب النحاس اللهب لونًا أخضر. وهو أول من فصل الذهب عن الفضة بالحل بوساطة الحمض، وشرح بالتفصيل عملية تحضير الزرنيخ، وتنقية المعادن، وصبغ الأقمشة[6].
ويُعزَى إليه أنه أولُ من استعمل الميزان الحساس والأوزان متناهية الدقة في تجاربه المخبرية؛ وقد وزن مقادير يقل وزنها عن1/100 من الرطل، ويُنسَب إليه تحضير مركبات كل من كربونات البوتاسيوم والصوديوم والرصاص القاعدي والإثمد (الأنتيمون)، كما استخدم ثاني أكسيد المنجنيز لإزالة الألوان في صناعة الزجاج، كما بلور جابر النظرية التي مفادها أن الاتحاد الكيميائي يتم باتصال ذرات العناصر المتفاعلة مع بعضها، ومثَّل على ذلك بكلٍّ من الزئبق والكبريت عندما يتحدان ويكونان مادة جديدة. وقد كان يجري معظم تجاربه في مختبر خاص اكتُشِف في أنقاض مدينة الكوفة في أواخر القرن الثاني عشر الهجري، الثامن عشر الميلادي[7].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] هو فصل الجسم المراد تحضيره بتصعيده إلي بخار ثم تكثيفه إلي سائل.
[2] هو فصل البلورات من ماء البحر المالح والحالات المشابهة.
[3] هو فصل الجسم الطيار بتسخينه حيث يتكاثف بخاره إلي مادة صلبة دون المرور على الحالة السائلة.
[4] تمكَّن بواسطة منخل أو قطعة قماش أن يرشح كثيرًا من المواد.
[5] انظر حكمت نجيب: دراسات في تاريخ العلوم عند العرب ص266، جلال مظهر: حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي ص280، 281.
[6] انظر في ذلك: جلال مظهر: حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي ص281.
[7] راجع في إنجازات جابر: الأعلام 2/104، أكرم عبد الوهاب: 100 عالم غيروا وجه العالم ص17، علي عبد الله الدفاع: روائع الحضارة العربية الإسلامية ص275، عبد الحليم منتصر: تاريخ العلم ودور العلماء العرب في تقدمه ص105، 106- الموسوعة العربية العالمية على شبكة الإنترنت، الرابط:
http://www.mawsoah.net/gae_portal/maogen.asp?main2&articleid=!جابر%20بن%20حيان!329556_
مؤلَّفات جابر
في مجمل مصنفاته يقول لوبون G. Lebon: "تتألف من كتب جابر موسوعة علمية تحتوي على خلاصة ما وصل إليه علم الكيمياء عند العرب في عصره، وقد اشتملت كتبه على بيان مركبات كيميائية كانت مجهوله قبله"[1].
فقد كان لجابر بن حيان العديد من المؤلفات العلمية، والتي تأثر بها الغرب ونقل عنها، حتى قرر ابن النديم أن له 306 كتابًا في الكيمياء بأسلوبه الخاص في أنحاء العالم، ورغم أن معظمها قد فُقِد، إلا أنه يوجد منها الآن ثمانون كتابًا محفوظًا في مكتبات الشرق والغرب، وقد تَرْجم معظمَ كتبه إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي روبرت الشستري (ت 539هـ / 1144م) وجيرار الكريموني (ت 583هـ / 1187م) وغيرهما، ومثّلت مصنفاته المترجمة الركيزة التي انطلق منها علم الكيمياء الحديث في العالم[2].
ويُعَدُّ كتاب (السموم ودفع مضارها) أشهر مؤلفات جابر ويقع في خمسة فصول، وفيه قسَّم السموم إلى حيوانية ونباتية وحجرية، وذكر الأدوية المضادة لها وتفاعلها في الجسم، وهذا الكتاب يعتبر همزة وصل بين الطب والكيمياء.
ومن أشهر كتبه أيضًا كتابه (الخواص الكبير)، ونسخته الأصلية موجودة في المتحف البريطاني.
وله أيضًا كتاب (التدابير)، وتعني العمل القائم على التجربة، وكتاب (الموازين)، وكتاب (الحديد) وفيه يصف جابر عملية استخراج الحديد الصلب من خاماته الأولى، كما يصف كيفية صنع الفولاذ بوساطة الصهر بالبواتق. ومن كتبه كذلك (نهاية الإتقان) وهو مؤلف رائد في الكيمياء، ورسالة (في الأفران).
وله أيضًا رسائل عن المرايا، كما ألَّف كتاب (السبعين) والذي يشمل سبعين مقالة حول أهم تجاربه في الكيمياء والنتائج التي توصل إليها، ويمكن اعتباره خلاصة ما وصل إليه علم الكيمياء عند العرب في عصره.
وله كذلك كتاب (الرحمة) ألَّفه في الخيمياء وتطرق فيه إلى إمكانية تحويل المعادن إلى ذهب، وكتاب (الجمل العشرون) و(أسرار الكيمياء) (وأصول الكيمياء)، وهذا غير مؤلفات أخرى في الرياضيات والفلسفة والشعر، وقد ترجمت بعض كتبه إلى اللاتينية مثل كتاب السبعين وكتاب الرحمة، وهناك كتب له باللاتينية لم يتم العثور على أصولها العربية، مثل: (البحث عن الكمال) و(كتاب العهد) و(كتاب الأتون)[3].
ولقد تُرجِمت كتب جابر إلى اللاتينية، وظلَّت المرجع الأوفى للكيمياء زهاء ألف عام، وكانت مؤلفاته موضع دراسة مشاهير علماء الغرب، أمثال: كوب، وبرثوليه، وكراوس، وهولميارد الذي أنصفه ووضعه في القمة، وبدَّد الشكوك التي أثارها حوله العلماء المغرضون. وأيضًا سارتون الذي أرَّخ به حقبة من الزمن في تاريخ الحضارة الإسلامية، يقول: "ما قدَّر جابر أن الكتب التي ألَّفها لا يمكن أن تكون من وضع رجل عاش في القرن الثاني للهجرة لكثرتها ووفرة ما بها من معلومات"[4].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] جوستاف لوبون: حضارة العرب ص25.
[2] راجع ابن النديم: الفهرست ص420، الأعلام 2/103، محمد علي عثمان: مسلمون علموا العالم ص64، أكرم عبد الوهاب: 100 عالم غيروا وجه العالم ص17.
[3] انظر في مؤلفاته: ابن النديم: الفهرست ص421 وما بعدها، الزركلي: الأعلام 2/103، أكرم عبد الوهاب: 100 عالم غيروا وجه العالم ص17، رحاب خضر عكاوي: موسوعة عباقرة الإسلام 4/29 وما بعدها .
[4] انظر عبد الحليم منتصر: تاريخ العلم ودور العلماء العرب في تقدمه ص106.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى