ميثاق حسن التدبير وأخلاقيات المهنة
صفحة 1 من اصل 1
ميثاق حسن التدبير وأخلاقيات المهنة
المملكة المغربية
وزارة التربية الوطنية
الكتابة العامة
مصوغة موجهة إلى حراس الداخلية والخارجية
ميثاق حسن التدبير وأخلاقيات المهنة
إعـداد
محمد عزيز الوكيلي
أكتوبر 2001
الــمــحــــاور
• تمهيد : التخليق وحسن التدبير في التصريح الحكومي .
• مضمون ميثاق حسن التدبير .
• كيف السبيل إلى تفعيل الميثاق ؟
• مواقف الرأي العام ووسائل الإعلام .
• استنتاجات وأفكـــار جديدة للمناقشة .
* تمهيد *
ميثاق حسن التدبير من خلال البرنامج الحكومي
إن المتتبع للنشاط الحكومي لا يسعه إلا أن يلمس ذلك الإصرار الذي أبدته حكومة التناوب التوافقي الحالية منذ توليها شؤون البلاد ، والذي نص عليه تصريح وزيرها الأول أمام البرلمان منذ أولى لحظات التأسيس ، بخصوص إيلاء اهتمام خاص ، بل شديد الخصوصية ، بمسألة عويصة وعصيبة طالما قضت مضاجع الحكومات المتعاقبة والرأي العام الوطني ، وطالما كان لها سيئ الأثر و وخيمه على المصلحة العامة للدولة برمتها ، ألا وهي مسألة الإدارة المغربية المهلهلة ، ذات التنظيم المتجاوز ، والتأطير العجوز ، والأساليب العتيقة ، والمبتلية فوق ذلك كله بآفات وأمراض في غاية الإضرار والخطورة تأتي على رأسها : الرشوة ، والمحسوبية ، والزبونية ، وإهدار المال العام ، واختلاسه ، والتلاعب بمصالح العباد والعباد لحساب المصلحة الخاصة ...
وإذا أضيفت إلى هذه الروزنامة من النقائص والمثالب حفنة أخرى من المعوقات لا تقل أهمية ولا تعدم هي الأخرى آثارها السيئة ، كعدم وجود العنصر البشري المناسب في المكان المناسب ؛ وعدم امتلاك كفاءات بشرية مؤهلة التأهيل الحــديث والمتلائم مع متطلبات الفعل الإداري العصري ، البسيط والفعال في آن واحد ؛ وكالإفراط في البطء وفي العرقلة عند الإتيان بأي جهد أو خدمة إدارية ... إلخ ، فإن المرء سيجد نفسه بإزاء شيء غريب ومعقد ومختلط وملتبس يمكن أن ينطبق عليه أي اسم أو أي وصف إلا اسم وصف " الجهاز الإداري القريب من المواطنين ، والخادم لمصالحهم " ، كما يحلو للإدارة المغربية أن تصف نفسها بين الحين والآخر .
كل هذا إذن ، جعل التصريح المتضمن للبرنامج الحكومي لفترة " البدء في التغيير " ، أو " الإعداد له "، يشتمل على إشارات قوية وجلية تجعل من التخليق الإداري واعتماد حسن التدبير على صعيد العنصر والمورد البشريين والإدارة في آن واحد ، من أسبق الأسبقيات وأكثرها التصاقا بمصالح الأمة ، مادامت تقوم بين هذين العنصرين الأساسيين ، من العناصر الأساسية المكونة للدولة (الإدارة والمواطنون) علاقة لصيقة ووطيدة وكامنة في عمق مفهوم الدولة ، نعني العلاقة العضوية القائمة على التزام المواطن بمد الإدارة بالمال (الضرائب والرسوم والجبايات) وبالموارد البشرية اللازمة (الأشخاص المؤهلين على الصعيد النظري لشغل المناصب الإدارية) مقابل التزام الإدارة بمد المواطن بالخدمات اليومية الضرورية لجعل عيشه اليومي أكثر راحة وتوفرا على كل الاحتياجات ، أو جل هذه الأخيرة .
يقول التصريح الحكومي بخصوص مسألة حسن التدبير المنوه عنها أعلاه ، ما ملخصه : إن الحكومة ترى في « ميثاق حسن التدبير » مرجعية ملزمة لأعضائها ومبرزة لمسؤولياتهم ، ومتضمنة « للمنطلقات الأساسية التي يجب أن تنحصر فيها جهود القطاعات الإدارية ، من دعم للأخلاقيات وترسيخ لسلوكات جديدة في التعامل مع المال العام ، ومن إشاعة لثقافة جديدة للتواصل داخل الإدارة ، إلى غير ذلك من الإجراءات التي لا تتوقف على مراجعة جذرية للنصوص أو الهياكل ، بقدر ما هي وليدة انتفاضة من أعماق الدواليب الإدارية لتصويب الأوضاع وإعادة الاعتبار للقيم الأخلاقية بالمرافق العمومية » .
إن الحكومة ترى إذن، كما يرى الشعب والرأي العام عموما، بأن العيب ليس في النصوص التشريعية والتنظيمية، بل حتى التطبيقية أحيانا، وإنما هو في الممارسة التي يأتيها الإنسان، الموظف، والتي تكون مخالفة لكل نص ولكل تنظيم ولكل برمجة. وليس هذا الرأي جديدا أو غريبا ، فقد اعتاد المغاربة ، بما فيهم أطر الإدارة أنفسهم ، على اعتبار بلادهم « جنة للقوانين والأنظمة ، ولكنها بدون سكان يتمتعون بخيراتها وثمارها » لأن القوانين المغربية كما ينشر عنا بعض الدارسين الأجانب « يســنها المغاربة لكـــي يتخــــطوها ويـــقفزوا علـــيها بكل الوسائل الممكنة والمتاحة ! »
* مضمون ميثاق حسن التدبير *
تبين لنا ، مما سبق ذكره ، بأن النقص الكبير الذي تعاني منه الإدارة المغربية ليس نقصا في القوانين واللوائح التنظيمية ، (وحتى التطبيقية في بعض الأحيان ) وإنما هو نقص في الأساليب التي يتعامل بها الموظفون على اختلاف درجاتهم ومراتبهم مع النصوص القائمة ، وبتحصيل الحاصل ، مع المصالح العامة للوطن والمواطنين .
من هنا ، يبدو أن المطلوب من الحكومة ليس هو تغيير النصوص أو تجديدها بقدر ما هو نشر ثقافة جديدة يمكن أن نسميها ، كما عبر عن ذلك الوزير الأول في تقديمه لنص ميثاق حسن التدبير ، « ثقافة المرفق العام » ، « ونشر هذه الثقافة على نطاق واسع ، وتشجيع المبادرات الفردية والجماعية الرامية إلى تحسين الأداء والرفع من جودة الخدمات الإدارية ، وبالتالي ، إقامة علاقات جديدة بين الإدارة ومحيطها ، قوامها الشفافية ونكران الذات » .
فما هو مضمون هذا الميثاق ، و ما هي الوسائل التي يرسمها لنا لمواجهة الأمراض الإدارية المستفحلة ؟
تنص توطئة ميثاق حسن التدبير على أن هذا الميثاق يجسد « الإرادة الثابتة لحكومة صاحب الجلالة في ترجمة سياسة التغيير من خلال مبادرات قطاعية عملية ومتواصلة » وتضيف التوطئة بأن هذا التوجه هو عين ما تم الإفصاح عنه في التصريح الحكومي أمام البرلمان .
« وقوام هذه الإرادة : (تضيف التوطئة) التزام أعضاء الحكومة باتخاذ تدابير ترمي إلى اعتماد قواعد واضحة وسلوك جديد في ميدان تدبير الشأن العام ، وذلك بهدف ارساء دعائم إدارة حديثة ، فعالة في أدائها ، حريصة على ترشيد استعمال مواردها (البشرية والمالية) ودائمة الإنصات لمحيطها » .
أما الميثاق ذاته فيتمحور حول المنطلقات الثلاثة الآتية:
1- الالتزام بالعمل على تخليق الحياة الإدارية ؛
2- الالتزام بترشيد وعقلنة التدبير العمومي ؛
3- الالتزام بتدعيم التواصل والتشاور وانفتاح الإدارة على محيطها .
1- يتعلق المنطلق الأول ، بتهذيب أخلاقيات المرفق العمومي ، واعتبار ذلك « من المطالب الأســـاسية والملحة للمجتمع ، ذلك أن استمرار تنامي مظاهر الفساد الإداري يشكك لا محالة في مصداقية وجدوى الإصلاحات الإدارية التي تعتزم الحكومة مباشرتها » .
ويطلب ذلك التهذيب جعل الموظفين يراعون « ضوابط السلوك المستقيم في عملهم اليومي لإعطاء صورة مشرقة ومغايرة عن المصالح العمومية».
وهذا يتطلب « إشاعة ثقافة بديلة داخل الإدارة ، قوامها التمسك بالقيم والمبادئ الأخلاقية مما يساعد على تهيئ المناخ المناسب لبلورة إصلاحات عميقة تستهدف الرفع من أداء الجهاز الإداري» .
وينص الميثاق على التزام الحكومة، من أجل بلوغ الأهداف المذكورة، بعدد من الواجبات من أهمها العمل على:
- تنمية ثقافة أخلاقية سليمة ترتكز على القيم والمبادئ والمثل في التعامل مع المواطنين ؛
- احترام القواعد القانونية وتنفيذ أحكام القضاء وإرساء دعائم دولة الحق والقانون؛
- ضمان مساواة المواطنين أمام المرفق العام؛
- استكمال وتكييف المنظومة القانونية والمؤسساتية بضمان تجسيد هذه المبادئ .
2- ويتعلق المنطلق الثاني (الالتزام بالترشيد والعقلنة) باعتماد التوجهات التالية : « - التحكم في التكلفة من خلال الالتزام بإعادة النظر في مناهج التدبير العمومي وقواعد المحاسبة العمومية ومن خلال البحث عن وسائل أخرى لتمويل المرافق كضمان مساهمة المستفيدين من خدماتها في هذا التمويل ، وكذلك من خلال تطوير الشراكة والتعامل مع مؤسسات القطاع الخاص ، وتطوير التعاون مع المنظمات غير الحكومية الوطنية والدولية »
- إجراء عمليات التدقيق التنظيمي والتحليل المؤسساتي ، وإعادة النظر في تنظيم المصالح الإدارية وهيكلتها بتجميع بعض منها أو بحذفها عند الاقتضاء .
- نشر تقارير المراقبة والتدقيق بهدف تمكين المواطن من الإطلاع على كيفية أداء الإدارة لمهامها واستعمالها للمال العام .
- وضع إستراتيجية شاملة للرفع من قدرات هذه الموارد وطرق تدبيرها والحرص أيضا على الملاءمة من بين المهام والكفاءات ، وتدبير الحياة الإدارية للموظفين تدبيرا أحسن وضمان تأهيلهم وتحفيزهم وتحسين ظروف عملهم .
- إقرار نظام محكم لمراقبة وتقويم مردودية وكفاءة الموظفين والمصالح باعتماد تقنيات التشخيص الذاتي والتدقيق الداخلي أو الخارجي ...
3- وأما المنطلق الثالث، حول الالتزام بالتواصل مع المحيط والتشاور مع المتعاملين والانفتاح عليهم ، فإنه يرتكز على الانتقادات التي تكال للإدارة والتي « غالبا ما يكون مصدرها انكماش الإدارة على نفسها وعجزها عن التواصل مع محيطها والإنصات لانشغالات المتعاملين معها » (كما يقول نص الميثاق).
وهذا الوضع ، إنما يؤدي إلى نشوء نوع من اللامبالاة تجاه مصالح المواطنين وإزاء همومهم وينجم عن ذلك بالتالي نوع من المعاملة السيئة والفاترة وسوء الاستقبال والإرشاد ...
وبإزاء هذه السلبيـــــات تلتزم الحكومة بمقتضى نص هذا الميثاق ما يلي :
« - اعتبار التواصل ركنا أساسيا في عمل الإدارة بإشاعة ثقافة الإرشاد والحوار والتشاور على نطاق واسع داخل الجهاز الإداري ...
- جعل حسن استقبال المواطنين وإرشادهم وتوجيههم من الانشغالات المركزية للمصالح الإدارية ، والحرص على تقيد كافة العاملين بالإدارة بهذا التوجه ؛
- إقرار مبدأ التشارك والانفتاح على مشاكل وتطلعات الفرقاء الاقتصاديين والاجتماعيين والحرص على التجاوب مع الحاجيات المتجددة للمقاولة في مجال التواصل ؛
- تبني مبدإ الشفافية في عمل الإدارة بغية تعزيز روابط الثقة بينها وبين المجتمع». هذه إذن، هي التوجهات العامة والمبادئ الأساسية التي تلتزم الحكومة بمقتضى نص ميثاق حسن التدبير بجعلها محط انشغالها وقيد التنفيذ والإعمال في كل المرافق العمومية وفي جميع المجالات الخاضعة لوصاية الدولة والتي لها صلة بالشأن العمومي .
كيف السبيل إلى تفعيل الميثاق ؟
طــالعتنا فــي النص المعروض أعلاه ، والمختزل لمضمون ميثاق حسن التدبير، أفكار رئيسية بالغة الموضوعية ، ويشوبها الكثير من الصراحة والنزاهة ، وتنم عن رغبة حكومية أكيدة في تغيير الواقع الإداري المزري الذي ذكرنا أعلاه ببعض مظاهره ، وفي جعل الإدارة كما ينبغي أن تكون ، بداهة ، في خدمة الوطن والمواطن والصالح العام ...
غير أن هذه الأفكار تبقى مجرد تنظير في سماء الفكر ، ووشم على الورق ، إذا لم تصاحبها خطط للعمل وبرامج محددة وواضحة تجعلها خبزا يوميا ملازما للموظف، على اختلاف مراتبه ودرجاته في السلم الإداري وسلم السلطة وصناعة القرار ، وتحولها إلى ممارسة يومية سرعان ما يلمس المواطنون والمتعاملون مع الإدارة وشركاؤها فوائدها وتبعاتها الطيبة وآثارها الإيجابية ، وتنزع عن جبينهم تلك التكشيرة التي ألفنا أن تطالعنا على محيا كل مواطن ومواطنة يشد أحدهما أو كلامهما الرحال صوب إدارة أو مرفق أو مصلحة عمومية لقضاء حاجة من الحاجات ، لعلمهما المسبق بما ينتظرهما هناك من المغامرات والأهوال !
ولكي تكون الحكومة منطقية مع ذاتها ، فإنها عمدت لتوها ، بواسطة الوزارة المكلفة بالوظيفة العمومية والإصلاح الإداري ، إلى إعداد خطة عمل منهجية لتفعيل الميثاق الذي نحن بصدده ، تقوم على جملة من المبادئ الأساسية هي :
- إن الالتزام والمسؤولية المشتركة يقتضيان بأن تكون المبادرات العملية لتحسين التدبير ذات مصدر أساسي هو القطاعات الوزارية ذاتها . فالالتزام والإصلاح ينبغي أن يكون من الداخل وكذلك مهمة تنفيذه وتحقيقه ؛
- إن التعبئة والمشاركة تقتضيان فتح المجال لأكبر عدد من الموظفين ، ومن جميع الأصناف ، لتقديم اقتراحات عملية لتطوير العمل الإداري وفقا للمنطلقات الثلاثة للميثاق ، المنوه عنها فيما سبق ؛
- إن الانسجام والتكامل يعنيان تحديد آليات مؤسستية للإشراف على تفعيل الميثاق على المستوى القطاعي (خلية التفعيل ) وعلى المستوى الوطني (وزارة الوظيفة العمومية والإصلاح الإداري واللجنة الاستراتيجية لإصلاح الإدارة ) .
- إن الانفتاح على المجتمع يتبلور من خلال وضع خطة إعلامية واسعة مواكبة لعملية تفعيل الميثاق بهدف كسب انخراط المجتمع في هذه العملية وضمان مساعدته لانجاحها .
وعلى أساس هذه المبادىء الرئيسية ، تضمنت خطة التفعيل مجموعة من التدابير والمبادرات والإجراءات التي ينبغي للقطاعات الإدارية أن تقوم بها ويمكن إيجازها فيما يلي :
* إن المبادرات المطلوب اقتراحها يجب أن تنصب بالأساس على الجوانب العملية في السير الإداري والتي لها علاقة مباشرة بمنطلقات الميثاق الثلاثة :
السلوك والممارسة والعلاقة السائدة ؛
أسلوب ومنهج العمل المعتمد ؛
أسلوب التعامل مع ممتلكات الإدارة .
وهذا يتطلب بدوره أن لا تبقى الإدارة مشغولة ومنشغله بذاتها ومنكبة كما كان حالها في السابق على جهود التطوير والتحيين في إطار الأوراش الكبرى (اللاتمركز الإداري ، الإطار القانوني العام للوظيفة العمومية ، مراجعة النصوص وتجديدها ... إلخ
وقد تضمــــنت خطة تفعـــيل الميــثاق أربـــع مــــراحل تسمـــيها الخـــطـــة " محطات " وهي :
1- التحسيس بأهمية الميثاق ؛
2- تحديد الإجراءات والتدابير التحسينية واستخراجها ؛
3- إعداد برنامج للعمل وتنفيذه ؛
4- المتابعة والتقويم .
وجعلت الخطة هذه المحطات الأربع سارية على صعيدين اثنين : الصعيد القطاعي في كل قطاع على حدة ، والصعيد الأفقي بين الإدارات .
وتضمن خطة التفعيل منهجية عامة للتفعيل على الصعيد الترابي (المصالح الخارجية ، والجماعات المحلية ، والمرافق الإدارية المستقلة كالمستشفيات والجامعات ... ) باعتبار هذا الصعيد بكل مكوناته طرفا أساسيا في عملية التفعيل . واعتبرت الإدارات المركزية المسؤول الأول عن هذه العملية على صعيد المصالح والمرافق الخارجية والكيانات المستقلة التابعة لها . وجعلت لكل وزارة وإدارة مركزية دورا محددا في التوجيه والتنسيق من أجل تفعيل فعلي وفعال لمقتضيات الميــثاق ، واقتضت الخطة أيضا نظاما للمتابعة والتقويم وآليات للقيام بهاتين المهمتين ، وحددت المؤسسة الوزارية المسؤولة عن كل عملية . والحث الخطة على عدة عوامل اعتــبرتها في غــاية الأولوية لجــعل التفعيل حاسما منها:
الاهتمام بإرشاد المواطنين وحسن استقبالهم ، وإقامة أوراش متخصصة في تدريب وتكوين أطر الاستقبال والإرشاد ، وجعلت للجانب الإعلامي حظا وافرا في هذا السياق ، لما لعامل الإخبار والتوعية والتحسيس والتعبئة من أهمية قصوى في إنجاح عملية التفعيل .
وأقرت الخطة وضع نظام للشكايات والتظلمات بالإدارة العمومية انطلاقا من أن غياب الوعي بأهمية الشكاية والتظلم يعد من بين المسببات الرئيسية في نفور المواطنين من الإدارة وتذمرهم من الأداء الإداري ، وجعلت لهذا النظام خطة مصاحبة وموازية للسهر على حسن الاستماع إلى الشكايات والإنصات إلى التظلمات ومعاملتها بما هي أهل له من العناية والاهتمام والتفهم ، وجعلها محط الدراسة والمعالجة والمتابعة . واقتضت الخطة فتح دفاتر تحمل اسم " دفاتر الشكايات " في كل قطاع وكل إدارة ، وجعل تلك الدفاتر محل مراقبة وتتبع حتى لا يضيع أي تظلم فتضيع معه مصالح أصحابه وتزداد علاقة هؤلاء بالإدارة سوءا .
مـــواقف الرأي العام ووسائل الإعلام
لقد كان المواطن المغربي ، ولا يزال ، المكتوي الأول بنار الخلل والتسيب اللذين أصابا الأداء الإداري كأثر مباشر للحقبة الاستعمارية في بداية الأمر ، ثم كثقافة سلبية وبغيضة يعتنقها كل من لايجد لديه القدرة والكفاءة على الصدق ومواجــهة الذات ومحاربة نزواتها فيسعى لذلك إلى كل وسائل الاغتناء غير المشروع ، أو الارتفاع والإرتقاء غير الطبيعيين عبر سلم المناصب والمسؤوليات .
ومادام المواطن المغربي هو المصاب الأول بآثاره هذه الآفة ، فإنه بلا ريب يصغي إلى كل ما يحدث ويدبر على صعيد الحكومة من الجهود والمبادرات والخطط والبرامج الرامية إلى التخفيف من أوجاعه والحد من المعوقات التي تعترض سبيل علاقاته مع الإدارة .
ومن باب تحصيل الحاصل ، فقد أولى الشارع المغربي انتباهه الكلي لكل ما صدر من الخطب والبلاغات والأفكار ذات العلاقة بالتخليق وحسن التدبير في المرفق الإداري ، وتدل على ذلك الانتباه والتتبع المقالات والتحاليل الصحفية التي وردت في الموضوع ، والتي أشبعت الأمر دراسة وتفكيكا وفحصا بما جعلها ، وهي المتحدث باسم المواطنين بغض النظر عن ألوانها السياسة ، تساهم بصورة غير مباشرة في صياغة ميثاق حسن التدبير ذاته ، وفي توجيه الأفكار المؤدية إلى تصور خطة تفعيله المتطرق إليها في الفعل السابق .
وخلاصة القول : إن الرأي العام الوطني ، من خلال وسائله الإعلامية ، عبر عن ابتهاجه ، الذي لا يخلو من الدهشة ، إزاء الجرأة التي تناولت الحكومة التوافقية الحالية بها موضوع التخليق وحسن التدبير ، والصراحة الجمة التي التزمت بها في تعرية واقع الإدارة المغربية ، وكذا في انتقاء الوسائل المطلوبة لمعالجة الموقف ، بل لمتابعته بالتحيين والتقويم والمراقبة اللصيقة من خلال لجن وأجهزة مختصة بهذا الشأن كما سبقت الإشارة .
وقد سجل الرأي العام المغربي التزام الحكومة بمسألة التخليق وحسن التدبير باعتبارها مرجعية يحتكم إليها كل عضو من أعضائها ، ومبدإ أساس يتم الانطلاق منه دائما ، ومن الآن فصاعدا ، في كل الإصلاحات الإدارية والوظيفية المرتقبة .
واعتبر الرأي العام الوطني من خلال ما جاءت به الصحافة المكتوبة والمسموعة والمرئية وعلى الخصوص ، من خلال الندوة الوطنية التي انعقدت تحت الــرعاية السامية لقائد مسيرة التصحيح والتجديد جلالة الملك محمد السادس ، بالرباط ، فيما بين 29 و 30 أكتوبر 1999 ، والتي استنارت أشغالها بالرسالة الملكية السامية التي تفضل جلالته بتوجيهها إلى محفلها ، حيث تطرقت فعاليات هذه الندوة وأوراشها لموضوعات شديدة الحساسية لا يمكن المرور بها مر الكرام ، نذكر منها على الخصوص :
- وجـــوب تعليل الإدارة لقرارتها بمقتضى نص قانوني ، مع غياب هذا النص ، مما يجعل الإدارة في حل من مسؤولية التعليل ، الشيء الذي يتسبب في غياب هذا العنصر من عناصر المسؤولية إزاء المواطنين والمتعاملين ، وتنجم عنه بالتالي حالات كثيرة من الشطط في إصدار القرارات غير المعللة .
- خضوع القرارات الإدارية لترتيبات غير مضبوطة وغير واضحة : فهناك القرار المكتوب ، وهناك القرار الشفوي ، ثم هناك قرارات لا وجود لها في السجلات والملفات ، بل هناك قرارات ضمنية غير صريحة تفتح الطريق على طولها وعرضها للالتباس والخلط والمراوغة .
- اتساع مجالات السلطة التقديرية للإدارة في غياب ضوابط قانونية تحددها .
- انعدام الشفافية في بعض القرارات الإدارية بحيث تكون أسبابها خفية أو مبينة عن قصد .
- ضعف التكوين القانوني لمعدي القرارات الإدارية ، وطغيان ثقافة الأوامر والتعليمات ...
ولم يفت الندوة أن تناقش مسألة أخرى طالما قضت مضاجع المواطنين ، وشكلت انشغالا كبيرا ورئيسيا لدى الوزير الأول والحكومة الحالية ، ألا وهي مسألة ضعف أو انعدام تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة في حق الإدارة العمومية لفائدة مواطنين تمتلأ محفظاتهم بشكايات وتظلمات لم ينصت إليها أحد ، قبل أن تتحول إلى دعاوي معروضة على أنظار العدالة .
ومن الجدير بالذكر في هذا الشأن بالذات ، أن الوزير الأول أصدر عدة مناشير ومذكرات ومراسلات وألقى عدة خطب وأحاديث صحفية تتطرق لهذه المسألة ، وتضعها في موقعها اللائق بها كوسيلة من الوسائل ذات الأولوية في توجهات التغيير الهادفة إلى إنصاف المواطن المظلوم عندما يكون خصمه متمثلا في سلطة حكومية أو إدارية ليس له عليها أي يد .
وقد أوصت الندوة في هذا الموضوع بإحداث مؤسسة " قاضي التنفيذ " لكي يكون لتنفيذ الأحكام القضائية المذكورة حجمه الوازن ويصير الجميع سواسية أمام العدالة و أمام القانون .
وقد أصدرت الندوة الوطنية المذكورة جملة أخرى من التوصيات تتمشى مع التوجهات العامة التي تسير الحكومة وفقها ، والتي تمليها الإرادة الملكية السامية في التغيير والتجديد والتطوير مواكبة لمطامح المواطنين واستجابة لمطالبهم ، منها على الخصوص :
تفعيل قانون التصريح بالممتلكات والإقرار بها ؛
التأكيد على دور الرقابة الذاتية وعلى ترسيخ مصداقية هذه الرقابة بواسطة إقامة أجهزة مختصة بهذه المهمة ، ووضع منهج ضابط لوظائفها ومحدد لإجراءات المتابعة والتقويم ، والرفع من فعالية هذه الأجهزة على أصعدة السياسة ، والإدارة ، والمال والمحاسبة ، والقضاء ، والمجال التقني الصرف ، بحيث يكون هذا التعدد في أوجه الرقابة عاملا مساعدا على تكاملها وعلى تكريس الفعالية المنشودة ؛
تنمية دور المجتمع المدني في تخليق المرفق العام ، مادام الطرفان المعنيان بالتخليق وحسن التدبير يتمثلان في الإدارة والمواطنين .
وقد ركزت الندوة في هذه التوصية على التزامات محددة لكل من الإدارة والمجتمع المدني بهيئاته ومؤسساته المتمثلة في الأحزاب والنقابات والجمعيات ووسائط الإعلام المختلفة ، وتصب كلها في اتجاه هدف تخليق المرفق الإداري والتدبير الحسن للمال العام بعيدا عن الشطط والتسيب .
استنتاجات وأفكار للمناقشة
نخلص مما سبق ذكره ، إلى أن مسألة تخليق الحياة الإدارية ورفع جودة تدبير المال العام لا تشكل هما حكوميا ، أو مطلبا شعبيا ، أوكلاهما فحسب ، بل إن هذه المسألة تمثل في الوقت الراهن المفتاح السحري الذي طالما انتظرته الدولة المغربية نظاما وحكومة وشعبا ومؤسسات مختلفة أن تتوفر سبل الإمساك به من أجل وضع القطار الإداري على السكة الصحيحة وبالتالي ، من أجل جعل كل المطامح ممكنة ومتاحة سواء على الصعيد السياسي (استرجاع الثقة في مؤسسات الدولة ) أو الاقتصادي (توفير الضمانات وجو الثقة والشفافية للإستثمار الوطني والأجنبي لكي يسهم في تطوير الاقتصاد الوطني وتنميته) ، أو الاجتماعي (إلغاء الحيف والظلم والشطط في استعمال السلطة والتسيب في إصدار القرارات غير المعقولة أو غير المعـــللة ، وجعل الإنسان أول أهدافه الفعلين السياسي والاقتصادي وكذا الفعل الإداري ) ، أو الثقافي (احترام وتكريم كل الروافد الثقافية التي تصب كلها في لحمة الذات والهوية المغربيتين ، العربية منها والأمازيغية ، والإفريقية ، والمتوسطية ) .
ويمكن للدارس هنا أن يقف على جملة من الاستنتاجات ، ربما لم تكن متاحة من قبل ، أي قبل الشروع في هذا الجهد الحكومي والمجتمعي المشترك من أجل الإصلاح والتصحيح ، منها على الخصوص :
1- إن مسألة الفساد الإداري بكل ما تحمله هذه العبارة من معاني ، وتدل عليه من أمراض وآفات ، لم تعد حكرا على وسيلة التعبير المجتمعية ، ولم تبق موضوع شكوى بالنسبة للمجتمع دون غيره كما كان عليه الأمر من قبل ، فقد كان المواطن يشكو تصلف الموظف وبغيه ، ويتظلم من آثار الفساد الإداري فيما كانت الإدارة تدفع ذلك عن نفسها وعن أعوانها وموظفيها . أما اليوم ، فقد وقفت السلطة الإدارية مع المجتمع جنبا إلى جنب لتسمية الأسماء بمسمياتها أولا ، وبمنتهى الجرأة والصراحة ثم لفتح ورش وطني مشترك تتكاتف الجهود فيه بين الدولة والمجتمع المدني بجميع مكوناتهما معا ، لإصلاح الوضع ، ولوضع آليات متابعته ومراقبته وتقويمه على الدوام .
2- إن الإدارة بدأت تتخلص من عنجهيتها وتتنازل عن بعض أوجل كبريائها السابق بقبولها الوقوف مع المواطن (المجتمع) على قدم المساواة أمام القانون وأما الآليات المناط بها مهام تطبيقه (أجهزة المراقبة ، والقضاء ، وآليات الزجر) .
3- نشوء ثقافة جديدة ، ولكنها كانت دائما موضوع حلم المواطن المغربي ، وتتمثل في الإحساس لدى المواطن العادي البسيط بالقدرة على مقارعة أي سلطة في هرم الإدارة المغربية ومقايضتها إذا كان الحق في صفه ، مادام القانون سيقول من الآن فصاعدا كلمته العادلة في الخصمين بلا أي اعتبارات خارجة عن نطاق نصوص القانون ذاته ومقتضياته .
4 – تحرر وسائل الإعلام ووسائطه المختلفة ، على اختلاف ألوانها وخلفياتها من طابو« الإدارة القامعة » أو«السلطة القاهرة» ونشوء فكرة « السلطة الشريك » التي يطبعها التفاهم والتفهم المتبادلان ، والتساكن والتعايش المبنيان على الاقتناع بالجدوى المتماثلة وبالحق المشترك والمتعادل في إقرار الخيارات المصيرية والكبرى للبلاد .
5- ترسخ وتجدر الفكرة الملكية القائلة « بالاقتصاد الاجتماعي في محل الاقتصاد الريعي » واتساع مداها ليشمل السياسة وكل مجالات الحياة الوطنية ، بحيث يصير الانسان (المجتمع) أساس كل فعل إنمائي وهدفه في آن واحد ، وقد عمـــت هــــذه الفكــــرة ذاتها العـــــلاقات القائــــمة بين الإدارة والمواطنين بعد أن صارت الإدارة نفسها تلتفت إلى وجوب جعل المواطن حجر الأساس في كل ما تقوم به مــــن جهود ، بل في كل ما هي قائمة لأجله ، مادام المواطن ذاته هو حجر الزاوية في الهرم الإداري نفسه ، وهذا ما يعبر عنه بتلك العبارة الشهيرة « الإدارة منكم وإليكم » .
ويبقى القول ، إن هناك وسائل أخرى للتصحيح أو للمساعدة على التصحيح ربما لم يفطن إليها الفاعلون بعد ، مثل « اعتماد لوائح الشرف واللوائح السوداء » وتعليقها في أبهاء الإدارات ، بحيث يطالع الخاص والعام أسماء ومناصب الموظفين الجادين ، المنتجين ، والمحترمين لالتزاماتهم ، وأسماء ومناصب نظرائهم ممن يخلون بمسؤولياتهم وواجباتهم تجاه الإدارة وتجاه الوطن والمواطنين ، ومن المؤكد أن أحدا لن يقدر ولن يتحمل ثقل ظهور اسمه في اللائحة الثانية ، بقدرما سيتنافس الجميع على دخول وتصدر أسماء اللائحة الأولى .
ومثل إصدار أحكام زجرية تقضي بقيام الموظف المحكوم عليه بأعمال وخدمات اجتماعية خاضعة للمراقبة ، خلال مدة حكم تضم عطله الأسبوعية أو عطلته السنوية ، أو الصنفين معا ، بحسب مدة الحكم المقضى به .
وهذه الوسائل ذات وزن نفسي كبير وفعال ربما أكثر مما لوسائل الزجر الأخرى ، مع ميزة عظيمة تجعل هاتين الوسيلتين المقترحتين هاهنا ، وما شابههما من الجزاءات مفيدة من وجهين اثنين في آن واحد :
- فمن جهة ، نجدهما تعملان معا على إصلاح الخطإ والدفع إلى اجتنابه ، دون إثارة نفس الشعور بالسخط ، المتولد لدى السجناء المحكوم عليهم لأخطاء إدارية غير خطيرة ؛
- ومن جهة ثانية ، فإنها لا تحرم الإدارة من إطار أو موظف يمكن أن يكون منتجا ، في الوقت الذي تجعله خارج أوقات عمله منتجا على نطاقات أخرى أوسع ، بحيث يتحول إلى « سجين ظريف » إذ صح التعبير .
ويبقى القول أيضا ، إن الحكومة قد قضت في محاولاتها التصحيحية هذه بأن يكون للمـــجتمع المدني دوره الفاعل كشريك في هذا الجهد ، وقد أصابت في رأيها هذا ، إلا أنها ينبغي أن تفتح المجال بصورة أكثر اتساعا لكي يقول المجتمع المدني أفرادا وجماعات كل ما لديه في الموضوع مما لم يتم قوله بعد .
الرباط في أكتوبر 2001
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى