الانحراف الدلالي، وبنية النمط الشعوري(الانزياح)
ثانوية ابن خلدون التأهيلية ببوزنيقة :: الدروس :: 2AB :: الشعب الأدبية :: مادة اللغة العربية :: مادة الدرس اللغوي
صفحة 1 من اصل 1
الانحراف الدلالي، وبنية النمط الشعوري(الانزياح)
الانحراف الدلالي، وبنية النمط الشعوري
علاء الدين رمضان
قَرَّ في النقد الأدبي، منذ أن أبرز الشكليون الروس الفروق الجوهريّة بين لغتي النثر والشعر، أن هذه اللغة الثانية – لغة الشعر - تتشكَّل على السطح الأملس المحايد للغة النثر، وتمارس فوقه تنظيم نسيجها ورسومها وخواصها التعبيريّة والتصويريّة المتميزة. ومنذ أن طرح هؤلاء الشكليون مفهوم الانتظام بوصفه خصيصة أساسية لِلُغَة الشعر، ثم طوّره "رومان ياكوبسن" مفهوم الأنساق باعتباره؛ أولاً: خصيصة للغة الشعر. وثانياً: الآليّة الرئيسية لخلق ما سماه "ريان موكار وفسكي": التأريض الأمامي Foregrounding، حاولت دراسات متعدّدة اكتناه التجليات المختلفة،المُحتملة، للأنساق. وقد جَسَّد المحدثون هذه المفاهيم والفروق التي تُمَيِّز لغة الشعر بمصطلح الانحراف الذي يعني أن شعريّة اللغة تقتضي خروجها الفاضح على العُرف النثري المعتاد، وكسر قواعد الأداء المألوفة لابتداع وسائلها الخاصة في التعبير عمَّا لا يستطيع النثر تحقيقه من قيم جمالية(1)، فبينما يُقَدِّم النثر (المعنى)، يُقَدِّم الشعر "معنى المعنى".
والانحراف في معناه الواسع، هو كل خروج –غير مُبَرَّر- على أصول قاعديّة مُتَعَارَفٍ عليها، ويمكن حصر الانحرافات الشعريّة بالوقوف على الأشكال البلاغيّة والأسلوبية التي يطرحها علم النص، والتي تعتمد بالدرجة الأولى على حصر الانحرافات الشعرية، وهو يَتِمُّ، أولاً، طبقاً للمستويات الصوتية والدلاليّة، ثم يتم طبقاً للوظائف التقابليّة بأنماطها الإسنادية والتحديديّة والتراكمية، الأمر الذي يسمح مثلاً بالتمييز بين عامل إسنادي،وهو الاستعارة، وعامل تحديدي وهو الوصف، وآخر تركيبي وهو عدم الترابط(2).
وفكرة الانحراف déflection تعتبر خرقاً منظّماً لشفرة اللغة، يحاول بناء نمط شعوري آخر بنظام جديد، وجملة الأمر أن تجاوز نمطية اللغة أصبح من أهم المرتكزات الأساسية المحدثة في الخطاب الشعري المعاصر، الذي يتغيَّا استحداث لغة شعرية جديدة تتمرّد على القوالب الجامدة، فالألفاظ هي أوّل مايلقانا في نصوص الشعر، لكن يجب أن نأخذ في الاعتبار أنّ "اللغة إنما تحدّدت ألفاظها بالقياس إلى عالم الأشياء الحسي، أمّا عالم النفس المعنوي فلا تزال ألفاظ اللغة قاصرة عن أن تحدّد معانيه، ولا تزال تضرب في تيهٍ من ماهيّاته، وهي ماهيّات غير متناهية، وما لا تناهي له لا يدرك إدراكاً دقيقاً بحيث يوضع لفظ محدّد بإزائه"(3) ومن ثمَّ فلا قياس لنسب الانحراف في حقل النفس المعنوي، بل إن اللغة بعدئذ قادرة على استيعاب أقصى درجات الانحراف مهما كانت، لأن اللغة ليست هي القاهرة عن التعبير عمّا في النفسالمعنوي، وإنما الوعي الاجتماعي والعرف، هذا هو موطن القصور الذي تعالجه اللغة الشعرية التي هي إحساس ووعي مقصود لذاته، إنها تفرض نفسها باعتبارها أداة فوق الرسالة التي تتضمنها، وأعلى منها، وتعلن عن نفسها بشكل سافر،كما أنها تشدّد بانتظام على صفاتها اللغوية، ومن ثَمّ فلا تصبح الألفاظ مجرّد وسائل لنقل الأفكار، بل أشياء مطلوبة لذواتها، وكيانات مادّية مستقلة بنفسها، وعلى هذا تتحول الكلمات من دوال إلى مدلولات(4).
يقول الشاعر محمد فوزي العِنْتيل (1924-1981م):
أطيفك هذا الذي يرتمي على وحدتي
كنخلات قريتنا الوادعة
تُغطي الحقول بأحلامها في ليالي القمرْ
وتحتضن الطيرَ حين يَمُرُّ
بِجِيدٍ تَهَدّل منه الثمر!(5)
فالألفاظ هنا لا تؤدّي معاني لغويّة واضحة أو غامضة فحسب. بل هي تؤدي كذلك معاني بيانية؛ فنحن ههنا –إذن- لسنا إزاء ألفاظ دقيقة، لها دلالات دقيقة،وإنما نحن إزاء رموز قاصرة يستعينون على قصورها بالخيال والموسيقا؛ ولكن قصورها لا يغادرها مغادرة تامة، بل تظلّ تسبح في ضبابٍ قليلٍ أو كثير،وهذا ما يجعلها واسعة الدلالة، حتى الألفاظ الحِسِّية، مثل (الجيد/ الثمر... الخ) تحسّ فيها اتساعاً شديداً وخروجاً عن مألوف الاستخدام اللغوي، فلا يَتَهَدَّل من جيد الحبيبةِ إلاّ ثدياها، كما يَتَهدَّل من "جيد" النخلة "البلح /الثمر"... فالشاعر هنا يحاول نقل أحاسيسه ومشاعره التي لا تستطيع ألفاظ اللغة القاصرة أداءها، ومثال آخر من مرحلة أقرب،يقول الشاعر(6):
ما الذي يَتبَقى للجريحِ.....
سوى طعنةٍ....
يدخلها غاضِباً...،
يُبَعْثِرُ فيها أغانيه...
في هذه البِنْيَة الاستفهامية، التي تتضمَّن في تضاعيفها إجابةً غير قاطعة، إجابة استفهامية، والانحراف أو الانزياح، تكمن قيمته، هنا، وقمّة عمله في لفظة "يدخلها" بإسناد فعل الدخول إلى الجريح، لا إلى نصل الخنجر مثلاً، فهذا المقطع وسابقه يفسحان المجال لوفرة من الاحتمالات، وفرق تفوق ما لنا أن نعرفه وندركه، ومرجع ذلك إلى أنّ حركات النفس الباطنة ومشاعرهاوظلالها لا حصر لها.
والانحراف الدلالي في النص السابق يتجلى للمتلقين بفضل علامات البِنْية التي تتضَمَّنه والسياق القائم فيه، ومن هنا فإنّ الانحراف مهما بلغتدرجته فإنه قابل للتحديد، فدرجة الانحراف هي التي تحدّد مستوى التشكيل الفني ذاته داخل النص، وتنوعه، إذ هي دائماً قابلة للتحديد، وفكرة "القاعدة اللغوية" هي التي يمكنها طرح تصوّر مناسب لحدود الانحراف، لم تعد –هذه- تعتمد على الاستعمال بتنوعه الشديد، وإنما أخذت ترتكز على مجموعة من القواعد الإجرائية المحدّدة الثابتة/ ومن هنا فإن الانحراف –باعتباره عدواناً منظّماً على القاعدة –وما اقترح من اعتباره الخاصيّة المميزة للشعرية البلاغية، وقد اكتسب بالتالي دلالة منطقيّة، فالانحراف اللغوي والانحراف المنطقي –الدلالي- ينحوان هكذا إلى الامتزاج. وانطلاقاً من ذلك أصبح من الممكن بناء نظريّة نموذج منطقي لأشكال اللغة الشعريّة(7).
علاء الدين رمضان
قَرَّ في النقد الأدبي، منذ أن أبرز الشكليون الروس الفروق الجوهريّة بين لغتي النثر والشعر، أن هذه اللغة الثانية – لغة الشعر - تتشكَّل على السطح الأملس المحايد للغة النثر، وتمارس فوقه تنظيم نسيجها ورسومها وخواصها التعبيريّة والتصويريّة المتميزة. ومنذ أن طرح هؤلاء الشكليون مفهوم الانتظام بوصفه خصيصة أساسية لِلُغَة الشعر، ثم طوّره "رومان ياكوبسن" مفهوم الأنساق باعتباره؛ أولاً: خصيصة للغة الشعر. وثانياً: الآليّة الرئيسية لخلق ما سماه "ريان موكار وفسكي": التأريض الأمامي Foregrounding، حاولت دراسات متعدّدة اكتناه التجليات المختلفة،المُحتملة، للأنساق. وقد جَسَّد المحدثون هذه المفاهيم والفروق التي تُمَيِّز لغة الشعر بمصطلح الانحراف الذي يعني أن شعريّة اللغة تقتضي خروجها الفاضح على العُرف النثري المعتاد، وكسر قواعد الأداء المألوفة لابتداع وسائلها الخاصة في التعبير عمَّا لا يستطيع النثر تحقيقه من قيم جمالية(1)، فبينما يُقَدِّم النثر (المعنى)، يُقَدِّم الشعر "معنى المعنى".
والانحراف في معناه الواسع، هو كل خروج –غير مُبَرَّر- على أصول قاعديّة مُتَعَارَفٍ عليها، ويمكن حصر الانحرافات الشعريّة بالوقوف على الأشكال البلاغيّة والأسلوبية التي يطرحها علم النص، والتي تعتمد بالدرجة الأولى على حصر الانحرافات الشعرية، وهو يَتِمُّ، أولاً، طبقاً للمستويات الصوتية والدلاليّة، ثم يتم طبقاً للوظائف التقابليّة بأنماطها الإسنادية والتحديديّة والتراكمية، الأمر الذي يسمح مثلاً بالتمييز بين عامل إسنادي،وهو الاستعارة، وعامل تحديدي وهو الوصف، وآخر تركيبي وهو عدم الترابط(2).
وفكرة الانحراف déflection تعتبر خرقاً منظّماً لشفرة اللغة، يحاول بناء نمط شعوري آخر بنظام جديد، وجملة الأمر أن تجاوز نمطية اللغة أصبح من أهم المرتكزات الأساسية المحدثة في الخطاب الشعري المعاصر، الذي يتغيَّا استحداث لغة شعرية جديدة تتمرّد على القوالب الجامدة، فالألفاظ هي أوّل مايلقانا في نصوص الشعر، لكن يجب أن نأخذ في الاعتبار أنّ "اللغة إنما تحدّدت ألفاظها بالقياس إلى عالم الأشياء الحسي، أمّا عالم النفس المعنوي فلا تزال ألفاظ اللغة قاصرة عن أن تحدّد معانيه، ولا تزال تضرب في تيهٍ من ماهيّاته، وهي ماهيّات غير متناهية، وما لا تناهي له لا يدرك إدراكاً دقيقاً بحيث يوضع لفظ محدّد بإزائه"(3) ومن ثمَّ فلا قياس لنسب الانحراف في حقل النفس المعنوي، بل إن اللغة بعدئذ قادرة على استيعاب أقصى درجات الانحراف مهما كانت، لأن اللغة ليست هي القاهرة عن التعبير عمّا في النفسالمعنوي، وإنما الوعي الاجتماعي والعرف، هذا هو موطن القصور الذي تعالجه اللغة الشعرية التي هي إحساس ووعي مقصود لذاته، إنها تفرض نفسها باعتبارها أداة فوق الرسالة التي تتضمنها، وأعلى منها، وتعلن عن نفسها بشكل سافر،كما أنها تشدّد بانتظام على صفاتها اللغوية، ومن ثَمّ فلا تصبح الألفاظ مجرّد وسائل لنقل الأفكار، بل أشياء مطلوبة لذواتها، وكيانات مادّية مستقلة بنفسها، وعلى هذا تتحول الكلمات من دوال إلى مدلولات(4).
يقول الشاعر محمد فوزي العِنْتيل (1924-1981م):
أطيفك هذا الذي يرتمي على وحدتي
كنخلات قريتنا الوادعة
تُغطي الحقول بأحلامها في ليالي القمرْ
وتحتضن الطيرَ حين يَمُرُّ
بِجِيدٍ تَهَدّل منه الثمر!(5)
فالألفاظ هنا لا تؤدّي معاني لغويّة واضحة أو غامضة فحسب. بل هي تؤدي كذلك معاني بيانية؛ فنحن ههنا –إذن- لسنا إزاء ألفاظ دقيقة، لها دلالات دقيقة،وإنما نحن إزاء رموز قاصرة يستعينون على قصورها بالخيال والموسيقا؛ ولكن قصورها لا يغادرها مغادرة تامة، بل تظلّ تسبح في ضبابٍ قليلٍ أو كثير،وهذا ما يجعلها واسعة الدلالة، حتى الألفاظ الحِسِّية، مثل (الجيد/ الثمر... الخ) تحسّ فيها اتساعاً شديداً وخروجاً عن مألوف الاستخدام اللغوي، فلا يَتَهَدَّل من جيد الحبيبةِ إلاّ ثدياها، كما يَتَهدَّل من "جيد" النخلة "البلح /الثمر"... فالشاعر هنا يحاول نقل أحاسيسه ومشاعره التي لا تستطيع ألفاظ اللغة القاصرة أداءها، ومثال آخر من مرحلة أقرب،يقول الشاعر(6):
ما الذي يَتبَقى للجريحِ.....
سوى طعنةٍ....
يدخلها غاضِباً...،
يُبَعْثِرُ فيها أغانيه...
في هذه البِنْيَة الاستفهامية، التي تتضمَّن في تضاعيفها إجابةً غير قاطعة، إجابة استفهامية، والانحراف أو الانزياح، تكمن قيمته، هنا، وقمّة عمله في لفظة "يدخلها" بإسناد فعل الدخول إلى الجريح، لا إلى نصل الخنجر مثلاً، فهذا المقطع وسابقه يفسحان المجال لوفرة من الاحتمالات، وفرق تفوق ما لنا أن نعرفه وندركه، ومرجع ذلك إلى أنّ حركات النفس الباطنة ومشاعرهاوظلالها لا حصر لها.
والانحراف الدلالي في النص السابق يتجلى للمتلقين بفضل علامات البِنْية التي تتضَمَّنه والسياق القائم فيه، ومن هنا فإنّ الانحراف مهما بلغتدرجته فإنه قابل للتحديد، فدرجة الانحراف هي التي تحدّد مستوى التشكيل الفني ذاته داخل النص، وتنوعه، إذ هي دائماً قابلة للتحديد، وفكرة "القاعدة اللغوية" هي التي يمكنها طرح تصوّر مناسب لحدود الانحراف، لم تعد –هذه- تعتمد على الاستعمال بتنوعه الشديد، وإنما أخذت ترتكز على مجموعة من القواعد الإجرائية المحدّدة الثابتة/ ومن هنا فإن الانحراف –باعتباره عدواناً منظّماً على القاعدة –وما اقترح من اعتباره الخاصيّة المميزة للشعرية البلاغية، وقد اكتسب بالتالي دلالة منطقيّة، فالانحراف اللغوي والانحراف المنطقي –الدلالي- ينحوان هكذا إلى الامتزاج. وانطلاقاً من ذلك أصبح من الممكن بناء نظريّة نموذج منطقي لأشكال اللغة الشعريّة(7).
النبراس- مشرف
-
عدد المساهمات : 57
تاريخ التسجيل : 20/08/2009
العمر : 59
ثانوية ابن خلدون التأهيلية ببوزنيقة :: الدروس :: 2AB :: الشعب الأدبية :: مادة اللغة العربية :: مادة الدرس اللغوي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى