حُــدودُ التـقارُب بين الـرّوائي و السِّـيرذاتي في الأدب المغـربيّ الحَـديث
ثانوية ابن خلدون التأهيلية ببوزنيقة :: الدروس :: 1AB :: الشعب الأدبية :: مادة اللغة العربية :: المؤلفات
صفحة 1 من اصل 1
حُــدودُ التـقارُب بين الـرّوائي و السِّـيرذاتي في الأدب المغـربيّ الحَـديث
حُــدودُ التـقارُب بين الـرّوائي و السِّـيرذاتي في الأدب المغـربيّ الحَـديث
فريد أمعضشو
ِعتبر بعض النقاد الذين درسوا الرواية المغربية أن عديداً من مُتونها إنما هي سيرٌ ذاتية، و اعتبر آخرون السير الذاتية المغربية رواياتٍ أو أنواعاً روائية داخلية. و هكذا، فقد جعل إدريس الناقوري “سبعة أبواب” لعبد الكريم غلاب سيرة ذاتية حرّرها صاحبها “لتوثيق تجربته الخاصة وراء القضبان”(1)، و عدَّ “جيل الظمأ” للمفكر و الأديب محمد عزيز الحبابي عملا أوتوبيوغرافياً كذلك؛ حيث يقول: “مهما كانت محاولة إيهام القارئ بضمير الغائب، فقد بقيت “جيل الظمأ” أسيرة السيرة الذاتية”(2). و ذهب الطائع الحداوي إلى أن “في الطفولة” لعبد المجيد بنجلون “أول رواية مغربية – و لو بالمعنى السيري – ظهرت في شكل السيرة الذاتية”، و ينظر كثير من الدارسين إلى “الخبز الحافي” لمحمد شكري باعتبارها نصا سيرذاتياً في العمق، على حين يعدُّها أكثر النقاد عملا روائياً… إذاً، فالخلط واضح بين فني السيرة الذاتية و الرواية! و لم تسلم “الزاوية” للتهامي الوزاني من هذا الخلط و الارتباك على المستوى التجنيسي؛ إذ إن الدارسين قد اختلفوا في تعيين جنسها. ففريقٌ من النقاد اعتبرها رواية، و فريق آخرُ رأى أنها سيرة ذاتية. و مَن يقرأ “الزاوية” يلمس – من كثب – طابعها السِّيري منذ الصفحة الأولى التي يعلن فيها الوزاني هدفَه الصريح من كتابة هذا النص دون مواربة، إذ يقول: “أريد أن أتحدث عن صفحة من أجمل صفحات حياتي، تلك هي حياة الرهبانية و الانقطاع للعبادة و التفرغ لما يطهّر النفس و يهذبها. فلا بد من ربط هذه الفترة الزمانية بعصرٍ سبقها كنتُ فيه صوفياً بطريق الوراثة و النشأة”(3). و يقول في موضع آخرَ: “أنا الوزاني أعرّفكم و أخبركم بالماضي التاريخي في حكاية ذات طابع تعاقبي مضمونها كيف انخرطتُ في طريق القوم(4)، فأصبحت صوفياً/طُرُقياً”(5). و قد صرّح عبد القادر الشاوي و عبد الحميد عقار عبد الرحيم مودن و آخرون بسيرية “الزاوية”، على حين عدَّها أحمد اليبوري “أول إنتاج شبه روائي بالمغرب”(6) في شكل سيرة ذاتية… نخلص من هذا كله إلى أن “الزاوية” سيرة ذاتية تتناول مرحلة من حياة التهامي الوزاني. فما السيرة الذاتية؟ و ما علاقتها بفن الرواية؟
حاول كل من درس السيرة الذاتية تحديدها و اقتراح تعريف لها. فقد رأى جان ستاروبنسكي في كتابه “النقد و الأدب” – ترجمة: نور الدين القاسم – أن الأوتوبيوغرافيا هي “سيرة الإنسان يسطٍّرها بنفسه”(7)، و حددها فيليب لوجون في كتابه “الميثاق السيرذاتي” – ترجمة: عمر حلي – بأنها “حكاية إرجاعية نثرية يحكيها شخص واقعي عن وجوده الخاص عندما يركز على حياته الفردية، و خصوصاً على تاريخ شخصيته”. و عرف الباحثان مجدي وهبة و كامل المهندس ،في معجمهما المشترك، الترجمة الذاتية (أو السيرة الذاتية) بأنها “سرد متواصل يكتبه شخص مّا عن حياته الماضية”(8)، و حددها أحد الدارسين المغاربة المعاصرين بأنها “الكتابة الاسترجاعية السردية التي ينجزها كاتبٌ عن حياته الشخصية لغرض مّا”(9)، و هي ،بتعبير عبد السلام الطويل، “تجربة وجودية يتماثل فيها صوت السارد بصوت المؤلِّف… و هي هنا سيرة ذاتية روائية، بمعنى أنها تقترن و تكتمل بعنصر التخييل، و تعمل فيها الذاكرة على انتقاء أحداثٍ بعينها و بالتأليف فيما بينها و ترتيبها”.(10)
انطلاقاً من هذه الأقوال و التعاريف، يمكن أن نستشفَّ جملة من المقوِّمات التي تعد دعائمَ فن السيرة الذاتية، كالآتي:
* إن السارد/ الحاكي و الشخصية يطابقان المؤلِّف في السيرة الذاتية. بمعنى أن ثمة تماثلاً بين هذه الأطراف الثلاثة. و هذا ما نلفيه ،بوضوح، في “الزاوية” للوزاني.
* ينقل المؤلف في حاضره تجربته التي عاشها في الماضي، و بهذا تغدو السيرة الذاتية استرجاعاً لما انصرَمَ من أمور و وقائع.
* يستند المؤلف في النقل إلى ملكة التخيُّل و التذكر؛ لأنه عندما يكتب سيرته يعتمد أساساً على ما تختزنه ذاكرته من حوادث الماضي الفائت.
* يستعمل المؤلف عنصر اللغة في نقل ماجريات الماضي، و هي لغة نثرية حكائية.
* للعمل السيرذاتي – بلا ريب – مقاصدُ و أهدافٌ محددة يروم تحقيقها. و “أبسط تلك المقاصد أن الكاتب يريد تخليد نفسه بقلمه”.(11)
و يُلاحَظُ ،على مستوى المصطلح، أن بعض الدارسين يترجم الكلمة الأجنبية “Autobiographie” بلفظ “سيرة ذاتية”؛ و هذا هو الرائج عندنا، و هناك آخرون يترجمون الكلمة نفسَها بعبارة “ترجمة ذاتية”؛ مثلما فعل عبد المحسن طه بدر في كتابه المشهور عن تطور الرواية العربية في مصر؛ بحيث إنه عَنْوَنَ الفصل الثالث من الباب الثاني بتعبير “رواية الترجمة الذاتية”، و توقف فيه عند خمسة أعمال هي: “الأيام” لطه حسين، و “زينب” لمحمد حسين هيكل، و إبراهيم الكاتب” لإبراهيم عبد القادر المازني، و “سارة” لعباس محمود العقاد، و “عودة الروح” لتوفيق الحكيم. و لا شك في أن تعدد المصطلحات العربية المقترَحَة للّـفظ الأجنبي الواحد يعد من أبرز المشاكل التي يعانيها الدرس المصطلحي العربي و التي نقف حجر عثرة في سبيل تنسيق مصطلحاتنا و توحيدها.
إن السيرة الذاتية ،إذاً، شكلٌ سردي قائم بذاته. و قد استطاع المبدعُ المغربي أن يحقق تراكماً محترَماً في هذا المضمار، رغم حداثة هذا الجنس الأدبي في مشهدنا الثقافي. يقول د. محمد يحيى قاسمي: “ثلاثون – أو يزيد – هو مجموع السير الذاتية التي كُتِبت بالمغرب، و هو عددٌ ضئيل مقارنة بعدد الروايات. و تتنوع مصطلحات السيرة نفسها بين السيرة الذاتية الروائية و السيرة الذهنية و السيرواية و الأوتوبيوغرافيا و اليوميات و المَحْكيات”.(12) و قد عرفت السيرة الذاتية بالمغرب تطوراً ملموساً، و اصطُبِغت بصبغات مختلفة خلال مسيرتها، و أعطت نماذج مهمة و متميزة. و يرى عبد الحميد عقار أن هذه السيرة مرّت ،في سياق تطورها إلى حدود التسعينيات، بثلاث لحظات رئيسة و متمايزة هي:
* لحظة “الزاوية” للتهامي الوزاني: و فيها “تأخذ مواجهة الواقع طابعاً هُروبياً”(13)، بحيث ينسحب الحاكي من فضاء الواقع الرحيب لينصهر في فضاء الزاوية المحدود باعتباره الواقع النقيض للمجتمع. و مُنطلق الكتابة هو الإحساس بالتغيُّر المرافَق بالأزمة؛ أزمةِ الاختيار بين ما يستجيب لقيَم الأشراف و مكانتهم، و بين ما تقتضيه تحولات المجتمع من تبدُّل في القِيم و العلاقات. و المُحَفّزُ على الاسترجاع و الاستعادة هو تماثل الحاضر و الماضي.
* لحظة “في الطفولة” لعبد المجيد بنجلون: و فيها “يصبح الموقف تعبيراً عن الدهشة أمام الواقع، و هو ما يبرر نبرة الحنين الرومانسي إلى الحضارة و التلقائية، و إلى الثقافة و الطبيعة معاً”.(14) و منطلق الكتابة هو الشعور بالمفارقة بين واقعين متناقضين تمام التناقض. و المحفز على الاسترجاع و الاستذكار هو التفكير بالمثال أو الأنموذج. فالمؤلِّفُ/ الساردُ بنجلون يرسم في هذا العمل السيرذاتي مسار طفولته و محطّاتها البارزة، انطلاقاً من تناول وقائع سياسية و اجتماعية، و من خلال المقارنة بين البِيئة الفاسية (المغرب) المتميزة بعوائدها العريقة و طابعها الحضاري المتخلف، و بين البيئة الإنجليزية (منشستر) المتميزة بتقاليدها الخاصة و طابعها الحضاري المتقدم. وهذا مَكمَن الدهشة و الشعور بالبَوْن الشاسع و التناقض الصارخ بين هذين الكِيانين الحضاريين… و يتحدث بعض النقاد عن هذا النص بوصفه نصّاً متميزاً في المجال السيرذاتي المغربي لاعتبارات معينة. يقول عبد الرحيم مودن: “يتميز “في الطفولة” ،عن الكتابات السيرية الذاتية المغربية، بطرْحه لإشكالية الكتابة السيرية أثناء الكتابة عن الذات”.(15)
* لحظة “الخبز الحافي” لمحمد شكري: و فيها تنصُّلٌ واضحٌ من أخلاقيات المجتمع و قِيَمه، و تمرُّدٌ صارخٌ على الواقع المَعيش بالتركيز على خرْق قيمة الجنس بوصفها شيئاً مقدَّساً لا يُتَحَدَّثُ عنه إلا بالتواء و تلميح. و منطلق الكتابة ها هنا البحثُ عن ردّ الاعتبار للفئة المجتمعية المُهَمَّشة و الكادحة، و مدافعة الدّونية و الاحتقار و التغييب المفروض على أغلب الشعب. و المحفز على الاسترجاع هو استمرار البؤس و الفاقة و الجَوْر. و مما يُلاحَظ على هذا النص أن الناس قد اختلفوا في تحديد جنسه الأدبي؛ فمنهم من يعتبره رواية، و منهم من يجعله ،إلى جانب “زمن الأخطاء” و “السوق الداخلي”، ثلاثية سيرذاتية، و منهم من ينظر إليه بوصفه مزيجاً من الجنسين معاً. يقول الباحث السوري عادل الفريجات إن “الخبز الحافي”لشكري “يمزج ما بين فن السيرة الذاتية و فن الرواية”.(16) و يعدّ هذا المزْجُ “ملمَحاً من ملامح الحداثة”(17) في هذا النص. و قد نَصَّ شكري نفسُه على جنس عمله السردي هذا، بحيث كتب على غلافه الخارجي الأول عبارة “سيرة ذاتية روائية”، و أشار إلى هذا الأمر كذلك في مؤخِّرة روايته الموسومة بـ”السوق الداخلي”. و في مقابَلةٍ أجْريَت معه، رَدَّ محمد شكري على سؤالٍ حول إشكالية تصنيف “الخبز الحافي” بالقول: “أنا لا أقول إنها رواية، و لا أقول ،في نفس الوقت، إنها سيرة ذاتية مكتوبة بتاريخ مسلسل، فهي سيرة ذاتية مُرْواة، أو سيرة ذاتية بشكل روائي”.(18)
بعد تحديد ماهية السيرة الذاتية و إلقاء نظرة سريعة على تطورها في الأدب المغربي الحديث و المعاصر، نأتي إلى الحديث عن طبيعة علاقتها بالرواية.
لا نشك في أن بين السيرة الذاتية و الرواية علاقاتٍ وطيدةً و صلاتٍ متينةً تمسّ مستويات عدة. و من الدارسين مَن بالَغ، فارتأى أنه من المستحيل الفصل بين هذين الفنّين. و هكذا، نجد الكاتب الكوبي " ليزاماليما" يؤكد أن “كل رواية و كل عمل أدبي إنما هو في نهاية الأمر سيرة ذاتية”.(19) و لتأكيد كلامه، يقدم أمثلة من الروائيين العالميين كـ"مارسيل ﭘروست" (M.Proust) و "جيمس جويس" (J.Joyce). ويقول أحد الدارسين المغاربة المعاصرين: “تبقى نقط الاختلاف ضئيلة بين السيرة الذاتية ،ذات الطابع الأدبي، و بين الرواية، و هي نقط لا ترشّحها لتحْمِل سمات جنسٍ أدبي مستقلّ عن دائرة الرواية. فإذا كانت هي النص السردي الطويل الذي يكتبه صاحبُه عن نفسه معتمِداً الذاكرةَ، فإنها تخضع للتخيُّل و للترهين، و لاستجماع طاقة الكاتب الجمالية خضوعاً لما اكتسبه من تجارب حياته و لقراءته التي تشكل جزءاً كبيراً من شخصيته كرجل و كمؤلف. لذلك تصبح السيرة الذاتية رواية و الرواية سيرة لشخصية متخيّلة، و تدخل في هذا التخيل عملية التذكر و عملية التفكير”.(20) فالباحثُ يصرّح بوجود بعض نقط التبايُن بين السيرة الذاتية و الرواية، و لا يرى أن هذه السيرة أهلٌ لتكون جنساً أدبياً قائماً بذاته و مستقلا عن جنس الرواية، و ينتهي إلى استحالة الفصل بين السيرة الذاتية و الرواية. و هذا الكلامُ – في نظرنا – يحتاج إلى نظر و تفحُّصٍ!
و يذهب بعض الباحثين إلى أن ثمة تلاقحاً بين السيرة الذاتية و الرواية، دون أن يعنيَ هذا ذوبان إحداهما في الأخرى. يقول البشير القمري: “يمكن التسليم مبدئياً بأن تلاقُحَ السيرة الذاتية و الرواية، و تلاقحهما معاً باستيحاء (الواقع) في الرواية المغربية ليس ظاهرة معزولة أو حديثة العهد متولّدة عن ذوبان جنس في آخر من منظور الهجانة و الخلط الأدبي، و إنما هو (التلاقح)؛ أحد مظاهر الخطاب الأدبي لغوياً و لِسْنياً، و الذي يطرأ في مختلِف أنماط التعبير و الفنون الحكائية التي تعتمد المَحْكي (Récit) كالكتابة التاريخية و الدينية و الفلسفية و كتابة الأخبار و المغامرات و الرِّحْلات ما دامت تجْنَح إلى تلوين نبْرة خطابها الإيديولوجي بنبرة خطاب قصصي سردي وَصْفي حكائي، و تنفتح على قنوات إيديولوجية أخرى دلالياً و إيحائياً منذ تجارب الشعوب القديمة، إلا أن ارتباط السيرة الذاتية من جديد بالرواية شكلياً – من حيث الشكلُ الروائي – هو الاستثناء في نظرية الأجناس الأدبية لأنه لم يتمّ بالفعل إلا منذ ما يقرب من ثلاثة قرون إذا نحن اعتمدْنا التخريج الهيجلي لملحمية الرواية إثر صعود البورجوازية للسيطرة في وقتٍ كانت رواية الفروسية و البيكاريسك هي بدورها مجالا للتناحُر بين عدة أجناس في استيحاء أجواء الحروب و المعارك و الأوْبئة و المجاعات”.(21)
إن الارتباطات الكثيرة الموجودة بين السيرة و الرواية لا يجب أن تدفعنا إلى القول بأنهما شيءٌ واحد أو خطابٌ أدبي هجين يجمع بينهما معاً. و الحق أنهما فنّان أو جنسان أدبيان يشتركان في جملة من الأمور من جهة، و من جهة أخرى يمتاز كل منهما ببعض الخصوصيات البنائية و الثيماتية. و عليه، تغدو السيرة – في رأينا – جنساً أدبياً قائماً بذاته، كما هو الحال بالنسبة إلى الرواية التي انعقد الإجماع على كونها جنساً قائماً بذاته. و يمكن أن نقول إن الفرق بين السيرة و الرواية شبيهٌ بالفارق بين الرواية و القصة. و إذا كان الدارسون يفرّقون بين القصة و الرواية و يعدّونهما جنسين أدبيين مستقلين، فلِمَ لا يتعاملون بالشكل نفسِه مع السيرة و الرواية؟ فينظرون إليهما بوصفهما جنسين مستقلين كذلك. و عادةً ما يتحدث النقاد في السيرة عن سيرة ذاتية تتناول حياة صاحبها أو جزءاًَ منها، و سيرة غيرية (البيوغرافيا) تتطرق إلى حياة شخص آخر. و لفن السيرة الذاتية جذورٌ في تراثنا الأدبي الزاخر، بحيث يمكننا أن نَعتبر تلك الترجمات التي كان يسطرها بعض الأدباء لأنفسهم بمثابة البذور الأولى لهذا الفن الذي لم تكتملْ صورته إلا في وقت متأخر مقارنة مع الأجناس الأدبية الأخرى. فقد كتب لسان الدين بن الخطيب (ت776هـ) ترجمة لنفسه في آخر كتابه “الإحاطة في أخبار غرناطة” – تحقيق: المرحوم عبد الله عنان (4 أجزاء) –، و فعل الشيءَ نفسَه عبد الرحمن بن خلدون (ت808هـ) في كتابه “التعريف بابن خلدون و رحلته غرباً و شرقاً”، و ترْجَم كذلك السيوطي (ت911هـ) لحياته في كتابه الموسوم بـ”حسن المحاظرة” (جزآن)… إلخ. و ممّن ترجم لغيره نُلْفِي ابن القاضي عيّاض الذي ترجم لأبيه في كتابٍ أسْماه “التعريف”، حُقِّق في السنوات الأخيرة على يد د. محمد بن شريفة. و هناك نماذجُ أخرى في هذا المجال؛ بعضُها سابق لهذه الأمثلة، و بعضها تالٍ. فهذه التراجمُ يمكن أن نعدّها إرهاصاتٍ للسيرة في أدبنا العربي، دون أن يعنيَ ذلك أنها سِيَرٌ تتوافر فيها العناصر الفنية و المقوّمات السردية للسيرة كما نعرفها اليوم و قد نضجت و استوى عودُها. ذلك بأن السيرة بمعناها الفني و بصورتها المكتملة و بصُواها المميِّزة لها لم تظهر إلا في زمنٍ متأخر نسبياً في الغرب أولا، ثم عندنا فيما بعدُ.
لقد بدأت تتعالى في الساحة الإبداعية و النقدية الحديثة أصواتٌ مُطالِـبة بكسْر الحواجز و نبْذ الحدود بين الأجناس الأدبية. و صرْنا نرى – مثلا – إبداعاتٍ روائية يحضر فيها الشعر و القصّ و الحوار الدرامي… يقول إدموند عمران المالح في هذا الصدد: “إن الحدود بين الأجناس الأدبية و تعيين المناطق الخصوصية بمثابة شرك ينتهي إلى حجْب معنى الإبداع ذاته و إخفاء معنى العمل الأدبي”.(22) و لعل هذا ما دفع بعض الباحثين إلى القول باستحالة الفصل بين السيرة و الرواية.
أشرْنا في مستهَلّ هذه المقالة إلى أن هناك دارسين يعتبرون نص “الزاوية” أولَ رواية مغربية. و هذا الرأيُ يحتاج إلى نظر و تدقيقٍ! و الحق أن ذاك النصَّ ليس سابقاً في هذا الميدان، بل مسبوقاً بنصّين على الأقل. يقول د. عبد الرحمن بوعليّ: “في المغرب لم تظهر الرواية الأولى و هي رواية “الرحلة المراكشية أو مرآة المساوئ الوقتية” لمحمد المؤقت إلا في سنة 1930، تبعتها بعد ذلك رواية “الزاوية” و هي الرواية الفنية الأولى لصاحبها التهامي الوزاني سنة 1942″.(23) و هناك نصٌّ آخرُ صدر عام 1941م؛ أي قبل صدور “الزاوية” بسنةٍ، و يتعلق الأمرُ برواية “طه” للروائي المغربي أحمد الحسن السكوري…!
الهــــوامش:
1- إدريس الناقوري: الرواية المغربية: مدخل إلى مشكلاتها الفكرية و الفنية”، دار النشر المغربية، ط.1983، ص61.
2- نفســــه، ص63.
3- التهامي الوزاني: الزاوية، مطبعة الريف، تطوان، ط.1، 1942، ص1.
4- أي طريق الصوفيين و التصوّف.
5- نفسه، 18.
6- أحمد اليبوري: دينامية النص الروائي، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الرباط، ط.1، 1993، ص27.
7- نقلاً من كتاب “روائية السيرة الذاتية” لمحمد أقُضاض، المعهد المغربي للكتاب، وجدة، ط.1، 1998، ص4.
8- مجدي وهبه و كامل المهندس: معجم المصطلحات العربية في اللغة و الأدب، مكتبة لبنان، بيروت، ط.1979، ص54.
9- محمد أقضاض: روائية السيرة الذاتية، م.س.، ص5.
10- عبد السلام الطويل: التجربة الأدبية عند محمد شكري، مجلة “آفاق” المغربية، ع.67، 2002، ص ص 201-202.
11- محمد أقضاض: روائية السيرة الذاتية، م.س.، ص17.
12- محمد قاسمي: بيبليوغرافيا الرواية المغربية، دار النشر الجسور، وجدة، ط.1، 2002، ص82.
13- عبد الحميد عقار: الرواية المغاربية، شركة النشر و التوزيع المدارس، البيضاء، ط.1، 2000، ص170.
14- نفســــــه.
15- عبد الرحيم مودن: الشكل القصصي في القصة المغربية، منشورات عكاظ، الرباط، ط.1997، 2/148.
16- عادل الفريجات: الروائي المغربي محمد شكري و سيرته الذاتية الروائية، مجلة “آفاق” المغربية، م.س.، ص175.
17- نفســــه.
18- فاضل جهاد: أسئلة الرواية، الدار العربية للكتاب، ليبيا- تونس، د.ت.، ص205.
19- إدموند عمران المالح: مقال “حياة حكاية لا حكاية حياة (ملاحظات حول السيرة الذاتية)”، تر: محمد برادة، ضمن كتاب “الرواية المغربية بين السيرة الذاتية و استيحاء الواقع”، من منشورات جريدة “الاتحاد الاشتراكي”، ط.1، 1985، ص7.
20- محمد أقضاض: روائية السيرة الذاتية، م.س.، ص21.
21- البشير القمري: مقال “حول الكتابة الروائية في (الأفعى و البحر) لمحمد زفزاف”، ضمن كتاب ” الرواية المغربية بين السيرة الذاتية و استيحاء الواقع”، ص34.
22- إدموند عمران المالح: مقال “حياة حكاية لا حكاية حياة…”، ص7.
23- عبد الرحمن بوعلي: المغامرة الروائية، من منشورات جامعة محمد الأول بوجدة، ط.1، 1996، ص7.
فريد أمعضشو
ِعتبر بعض النقاد الذين درسوا الرواية المغربية أن عديداً من مُتونها إنما هي سيرٌ ذاتية، و اعتبر آخرون السير الذاتية المغربية رواياتٍ أو أنواعاً روائية داخلية. و هكذا، فقد جعل إدريس الناقوري “سبعة أبواب” لعبد الكريم غلاب سيرة ذاتية حرّرها صاحبها “لتوثيق تجربته الخاصة وراء القضبان”(1)، و عدَّ “جيل الظمأ” للمفكر و الأديب محمد عزيز الحبابي عملا أوتوبيوغرافياً كذلك؛ حيث يقول: “مهما كانت محاولة إيهام القارئ بضمير الغائب، فقد بقيت “جيل الظمأ” أسيرة السيرة الذاتية”(2). و ذهب الطائع الحداوي إلى أن “في الطفولة” لعبد المجيد بنجلون “أول رواية مغربية – و لو بالمعنى السيري – ظهرت في شكل السيرة الذاتية”، و ينظر كثير من الدارسين إلى “الخبز الحافي” لمحمد شكري باعتبارها نصا سيرذاتياً في العمق، على حين يعدُّها أكثر النقاد عملا روائياً… إذاً، فالخلط واضح بين فني السيرة الذاتية و الرواية! و لم تسلم “الزاوية” للتهامي الوزاني من هذا الخلط و الارتباك على المستوى التجنيسي؛ إذ إن الدارسين قد اختلفوا في تعيين جنسها. ففريقٌ من النقاد اعتبرها رواية، و فريق آخرُ رأى أنها سيرة ذاتية. و مَن يقرأ “الزاوية” يلمس – من كثب – طابعها السِّيري منذ الصفحة الأولى التي يعلن فيها الوزاني هدفَه الصريح من كتابة هذا النص دون مواربة، إذ يقول: “أريد أن أتحدث عن صفحة من أجمل صفحات حياتي، تلك هي حياة الرهبانية و الانقطاع للعبادة و التفرغ لما يطهّر النفس و يهذبها. فلا بد من ربط هذه الفترة الزمانية بعصرٍ سبقها كنتُ فيه صوفياً بطريق الوراثة و النشأة”(3). و يقول في موضع آخرَ: “أنا الوزاني أعرّفكم و أخبركم بالماضي التاريخي في حكاية ذات طابع تعاقبي مضمونها كيف انخرطتُ في طريق القوم(4)، فأصبحت صوفياً/طُرُقياً”(5). و قد صرّح عبد القادر الشاوي و عبد الحميد عقار عبد الرحيم مودن و آخرون بسيرية “الزاوية”، على حين عدَّها أحمد اليبوري “أول إنتاج شبه روائي بالمغرب”(6) في شكل سيرة ذاتية… نخلص من هذا كله إلى أن “الزاوية” سيرة ذاتية تتناول مرحلة من حياة التهامي الوزاني. فما السيرة الذاتية؟ و ما علاقتها بفن الرواية؟
حاول كل من درس السيرة الذاتية تحديدها و اقتراح تعريف لها. فقد رأى جان ستاروبنسكي في كتابه “النقد و الأدب” – ترجمة: نور الدين القاسم – أن الأوتوبيوغرافيا هي “سيرة الإنسان يسطٍّرها بنفسه”(7)، و حددها فيليب لوجون في كتابه “الميثاق السيرذاتي” – ترجمة: عمر حلي – بأنها “حكاية إرجاعية نثرية يحكيها شخص واقعي عن وجوده الخاص عندما يركز على حياته الفردية، و خصوصاً على تاريخ شخصيته”. و عرف الباحثان مجدي وهبة و كامل المهندس ،في معجمهما المشترك، الترجمة الذاتية (أو السيرة الذاتية) بأنها “سرد متواصل يكتبه شخص مّا عن حياته الماضية”(8)، و حددها أحد الدارسين المغاربة المعاصرين بأنها “الكتابة الاسترجاعية السردية التي ينجزها كاتبٌ عن حياته الشخصية لغرض مّا”(9)، و هي ،بتعبير عبد السلام الطويل، “تجربة وجودية يتماثل فيها صوت السارد بصوت المؤلِّف… و هي هنا سيرة ذاتية روائية، بمعنى أنها تقترن و تكتمل بعنصر التخييل، و تعمل فيها الذاكرة على انتقاء أحداثٍ بعينها و بالتأليف فيما بينها و ترتيبها”.(10)
انطلاقاً من هذه الأقوال و التعاريف، يمكن أن نستشفَّ جملة من المقوِّمات التي تعد دعائمَ فن السيرة الذاتية، كالآتي:
* إن السارد/ الحاكي و الشخصية يطابقان المؤلِّف في السيرة الذاتية. بمعنى أن ثمة تماثلاً بين هذه الأطراف الثلاثة. و هذا ما نلفيه ،بوضوح، في “الزاوية” للوزاني.
* ينقل المؤلف في حاضره تجربته التي عاشها في الماضي، و بهذا تغدو السيرة الذاتية استرجاعاً لما انصرَمَ من أمور و وقائع.
* يستند المؤلف في النقل إلى ملكة التخيُّل و التذكر؛ لأنه عندما يكتب سيرته يعتمد أساساً على ما تختزنه ذاكرته من حوادث الماضي الفائت.
* يستعمل المؤلف عنصر اللغة في نقل ماجريات الماضي، و هي لغة نثرية حكائية.
* للعمل السيرذاتي – بلا ريب – مقاصدُ و أهدافٌ محددة يروم تحقيقها. و “أبسط تلك المقاصد أن الكاتب يريد تخليد نفسه بقلمه”.(11)
و يُلاحَظُ ،على مستوى المصطلح، أن بعض الدارسين يترجم الكلمة الأجنبية “Autobiographie” بلفظ “سيرة ذاتية”؛ و هذا هو الرائج عندنا، و هناك آخرون يترجمون الكلمة نفسَها بعبارة “ترجمة ذاتية”؛ مثلما فعل عبد المحسن طه بدر في كتابه المشهور عن تطور الرواية العربية في مصر؛ بحيث إنه عَنْوَنَ الفصل الثالث من الباب الثاني بتعبير “رواية الترجمة الذاتية”، و توقف فيه عند خمسة أعمال هي: “الأيام” لطه حسين، و “زينب” لمحمد حسين هيكل، و إبراهيم الكاتب” لإبراهيم عبد القادر المازني، و “سارة” لعباس محمود العقاد، و “عودة الروح” لتوفيق الحكيم. و لا شك في أن تعدد المصطلحات العربية المقترَحَة للّـفظ الأجنبي الواحد يعد من أبرز المشاكل التي يعانيها الدرس المصطلحي العربي و التي نقف حجر عثرة في سبيل تنسيق مصطلحاتنا و توحيدها.
إن السيرة الذاتية ،إذاً، شكلٌ سردي قائم بذاته. و قد استطاع المبدعُ المغربي أن يحقق تراكماً محترَماً في هذا المضمار، رغم حداثة هذا الجنس الأدبي في مشهدنا الثقافي. يقول د. محمد يحيى قاسمي: “ثلاثون – أو يزيد – هو مجموع السير الذاتية التي كُتِبت بالمغرب، و هو عددٌ ضئيل مقارنة بعدد الروايات. و تتنوع مصطلحات السيرة نفسها بين السيرة الذاتية الروائية و السيرة الذهنية و السيرواية و الأوتوبيوغرافيا و اليوميات و المَحْكيات”.(12) و قد عرفت السيرة الذاتية بالمغرب تطوراً ملموساً، و اصطُبِغت بصبغات مختلفة خلال مسيرتها، و أعطت نماذج مهمة و متميزة. و يرى عبد الحميد عقار أن هذه السيرة مرّت ،في سياق تطورها إلى حدود التسعينيات، بثلاث لحظات رئيسة و متمايزة هي:
* لحظة “الزاوية” للتهامي الوزاني: و فيها “تأخذ مواجهة الواقع طابعاً هُروبياً”(13)، بحيث ينسحب الحاكي من فضاء الواقع الرحيب لينصهر في فضاء الزاوية المحدود باعتباره الواقع النقيض للمجتمع. و مُنطلق الكتابة هو الإحساس بالتغيُّر المرافَق بالأزمة؛ أزمةِ الاختيار بين ما يستجيب لقيَم الأشراف و مكانتهم، و بين ما تقتضيه تحولات المجتمع من تبدُّل في القِيم و العلاقات. و المُحَفّزُ على الاسترجاع و الاستعادة هو تماثل الحاضر و الماضي.
* لحظة “في الطفولة” لعبد المجيد بنجلون: و فيها “يصبح الموقف تعبيراً عن الدهشة أمام الواقع، و هو ما يبرر نبرة الحنين الرومانسي إلى الحضارة و التلقائية، و إلى الثقافة و الطبيعة معاً”.(14) و منطلق الكتابة هو الشعور بالمفارقة بين واقعين متناقضين تمام التناقض. و المحفز على الاسترجاع و الاستذكار هو التفكير بالمثال أو الأنموذج. فالمؤلِّفُ/ الساردُ بنجلون يرسم في هذا العمل السيرذاتي مسار طفولته و محطّاتها البارزة، انطلاقاً من تناول وقائع سياسية و اجتماعية، و من خلال المقارنة بين البِيئة الفاسية (المغرب) المتميزة بعوائدها العريقة و طابعها الحضاري المتخلف، و بين البيئة الإنجليزية (منشستر) المتميزة بتقاليدها الخاصة و طابعها الحضاري المتقدم. وهذا مَكمَن الدهشة و الشعور بالبَوْن الشاسع و التناقض الصارخ بين هذين الكِيانين الحضاريين… و يتحدث بعض النقاد عن هذا النص بوصفه نصّاً متميزاً في المجال السيرذاتي المغربي لاعتبارات معينة. يقول عبد الرحيم مودن: “يتميز “في الطفولة” ،عن الكتابات السيرية الذاتية المغربية، بطرْحه لإشكالية الكتابة السيرية أثناء الكتابة عن الذات”.(15)
* لحظة “الخبز الحافي” لمحمد شكري: و فيها تنصُّلٌ واضحٌ من أخلاقيات المجتمع و قِيَمه، و تمرُّدٌ صارخٌ على الواقع المَعيش بالتركيز على خرْق قيمة الجنس بوصفها شيئاً مقدَّساً لا يُتَحَدَّثُ عنه إلا بالتواء و تلميح. و منطلق الكتابة ها هنا البحثُ عن ردّ الاعتبار للفئة المجتمعية المُهَمَّشة و الكادحة، و مدافعة الدّونية و الاحتقار و التغييب المفروض على أغلب الشعب. و المحفز على الاسترجاع هو استمرار البؤس و الفاقة و الجَوْر. و مما يُلاحَظ على هذا النص أن الناس قد اختلفوا في تحديد جنسه الأدبي؛ فمنهم من يعتبره رواية، و منهم من يجعله ،إلى جانب “زمن الأخطاء” و “السوق الداخلي”، ثلاثية سيرذاتية، و منهم من ينظر إليه بوصفه مزيجاً من الجنسين معاً. يقول الباحث السوري عادل الفريجات إن “الخبز الحافي”لشكري “يمزج ما بين فن السيرة الذاتية و فن الرواية”.(16) و يعدّ هذا المزْجُ “ملمَحاً من ملامح الحداثة”(17) في هذا النص. و قد نَصَّ شكري نفسُه على جنس عمله السردي هذا، بحيث كتب على غلافه الخارجي الأول عبارة “سيرة ذاتية روائية”، و أشار إلى هذا الأمر كذلك في مؤخِّرة روايته الموسومة بـ”السوق الداخلي”. و في مقابَلةٍ أجْريَت معه، رَدَّ محمد شكري على سؤالٍ حول إشكالية تصنيف “الخبز الحافي” بالقول: “أنا لا أقول إنها رواية، و لا أقول ،في نفس الوقت، إنها سيرة ذاتية مكتوبة بتاريخ مسلسل، فهي سيرة ذاتية مُرْواة، أو سيرة ذاتية بشكل روائي”.(18)
بعد تحديد ماهية السيرة الذاتية و إلقاء نظرة سريعة على تطورها في الأدب المغربي الحديث و المعاصر، نأتي إلى الحديث عن طبيعة علاقتها بالرواية.
لا نشك في أن بين السيرة الذاتية و الرواية علاقاتٍ وطيدةً و صلاتٍ متينةً تمسّ مستويات عدة. و من الدارسين مَن بالَغ، فارتأى أنه من المستحيل الفصل بين هذين الفنّين. و هكذا، نجد الكاتب الكوبي " ليزاماليما" يؤكد أن “كل رواية و كل عمل أدبي إنما هو في نهاية الأمر سيرة ذاتية”.(19) و لتأكيد كلامه، يقدم أمثلة من الروائيين العالميين كـ"مارسيل ﭘروست" (M.Proust) و "جيمس جويس" (J.Joyce). ويقول أحد الدارسين المغاربة المعاصرين: “تبقى نقط الاختلاف ضئيلة بين السيرة الذاتية ،ذات الطابع الأدبي، و بين الرواية، و هي نقط لا ترشّحها لتحْمِل سمات جنسٍ أدبي مستقلّ عن دائرة الرواية. فإذا كانت هي النص السردي الطويل الذي يكتبه صاحبُه عن نفسه معتمِداً الذاكرةَ، فإنها تخضع للتخيُّل و للترهين، و لاستجماع طاقة الكاتب الجمالية خضوعاً لما اكتسبه من تجارب حياته و لقراءته التي تشكل جزءاً كبيراً من شخصيته كرجل و كمؤلف. لذلك تصبح السيرة الذاتية رواية و الرواية سيرة لشخصية متخيّلة، و تدخل في هذا التخيل عملية التذكر و عملية التفكير”.(20) فالباحثُ يصرّح بوجود بعض نقط التبايُن بين السيرة الذاتية و الرواية، و لا يرى أن هذه السيرة أهلٌ لتكون جنساً أدبياً قائماً بذاته و مستقلا عن جنس الرواية، و ينتهي إلى استحالة الفصل بين السيرة الذاتية و الرواية. و هذا الكلامُ – في نظرنا – يحتاج إلى نظر و تفحُّصٍ!
و يذهب بعض الباحثين إلى أن ثمة تلاقحاً بين السيرة الذاتية و الرواية، دون أن يعنيَ هذا ذوبان إحداهما في الأخرى. يقول البشير القمري: “يمكن التسليم مبدئياً بأن تلاقُحَ السيرة الذاتية و الرواية، و تلاقحهما معاً باستيحاء (الواقع) في الرواية المغربية ليس ظاهرة معزولة أو حديثة العهد متولّدة عن ذوبان جنس في آخر من منظور الهجانة و الخلط الأدبي، و إنما هو (التلاقح)؛ أحد مظاهر الخطاب الأدبي لغوياً و لِسْنياً، و الذي يطرأ في مختلِف أنماط التعبير و الفنون الحكائية التي تعتمد المَحْكي (Récit) كالكتابة التاريخية و الدينية و الفلسفية و كتابة الأخبار و المغامرات و الرِّحْلات ما دامت تجْنَح إلى تلوين نبْرة خطابها الإيديولوجي بنبرة خطاب قصصي سردي وَصْفي حكائي، و تنفتح على قنوات إيديولوجية أخرى دلالياً و إيحائياً منذ تجارب الشعوب القديمة، إلا أن ارتباط السيرة الذاتية من جديد بالرواية شكلياً – من حيث الشكلُ الروائي – هو الاستثناء في نظرية الأجناس الأدبية لأنه لم يتمّ بالفعل إلا منذ ما يقرب من ثلاثة قرون إذا نحن اعتمدْنا التخريج الهيجلي لملحمية الرواية إثر صعود البورجوازية للسيطرة في وقتٍ كانت رواية الفروسية و البيكاريسك هي بدورها مجالا للتناحُر بين عدة أجناس في استيحاء أجواء الحروب و المعارك و الأوْبئة و المجاعات”.(21)
إن الارتباطات الكثيرة الموجودة بين السيرة و الرواية لا يجب أن تدفعنا إلى القول بأنهما شيءٌ واحد أو خطابٌ أدبي هجين يجمع بينهما معاً. و الحق أنهما فنّان أو جنسان أدبيان يشتركان في جملة من الأمور من جهة، و من جهة أخرى يمتاز كل منهما ببعض الخصوصيات البنائية و الثيماتية. و عليه، تغدو السيرة – في رأينا – جنساً أدبياً قائماً بذاته، كما هو الحال بالنسبة إلى الرواية التي انعقد الإجماع على كونها جنساً قائماً بذاته. و يمكن أن نقول إن الفرق بين السيرة و الرواية شبيهٌ بالفارق بين الرواية و القصة. و إذا كان الدارسون يفرّقون بين القصة و الرواية و يعدّونهما جنسين أدبيين مستقلين، فلِمَ لا يتعاملون بالشكل نفسِه مع السيرة و الرواية؟ فينظرون إليهما بوصفهما جنسين مستقلين كذلك. و عادةً ما يتحدث النقاد في السيرة عن سيرة ذاتية تتناول حياة صاحبها أو جزءاًَ منها، و سيرة غيرية (البيوغرافيا) تتطرق إلى حياة شخص آخر. و لفن السيرة الذاتية جذورٌ في تراثنا الأدبي الزاخر، بحيث يمكننا أن نَعتبر تلك الترجمات التي كان يسطرها بعض الأدباء لأنفسهم بمثابة البذور الأولى لهذا الفن الذي لم تكتملْ صورته إلا في وقت متأخر مقارنة مع الأجناس الأدبية الأخرى. فقد كتب لسان الدين بن الخطيب (ت776هـ) ترجمة لنفسه في آخر كتابه “الإحاطة في أخبار غرناطة” – تحقيق: المرحوم عبد الله عنان (4 أجزاء) –، و فعل الشيءَ نفسَه عبد الرحمن بن خلدون (ت808هـ) في كتابه “التعريف بابن خلدون و رحلته غرباً و شرقاً”، و ترْجَم كذلك السيوطي (ت911هـ) لحياته في كتابه الموسوم بـ”حسن المحاظرة” (جزآن)… إلخ. و ممّن ترجم لغيره نُلْفِي ابن القاضي عيّاض الذي ترجم لأبيه في كتابٍ أسْماه “التعريف”، حُقِّق في السنوات الأخيرة على يد د. محمد بن شريفة. و هناك نماذجُ أخرى في هذا المجال؛ بعضُها سابق لهذه الأمثلة، و بعضها تالٍ. فهذه التراجمُ يمكن أن نعدّها إرهاصاتٍ للسيرة في أدبنا العربي، دون أن يعنيَ ذلك أنها سِيَرٌ تتوافر فيها العناصر الفنية و المقوّمات السردية للسيرة كما نعرفها اليوم و قد نضجت و استوى عودُها. ذلك بأن السيرة بمعناها الفني و بصورتها المكتملة و بصُواها المميِّزة لها لم تظهر إلا في زمنٍ متأخر نسبياً في الغرب أولا، ثم عندنا فيما بعدُ.
لقد بدأت تتعالى في الساحة الإبداعية و النقدية الحديثة أصواتٌ مُطالِـبة بكسْر الحواجز و نبْذ الحدود بين الأجناس الأدبية. و صرْنا نرى – مثلا – إبداعاتٍ روائية يحضر فيها الشعر و القصّ و الحوار الدرامي… يقول إدموند عمران المالح في هذا الصدد: “إن الحدود بين الأجناس الأدبية و تعيين المناطق الخصوصية بمثابة شرك ينتهي إلى حجْب معنى الإبداع ذاته و إخفاء معنى العمل الأدبي”.(22) و لعل هذا ما دفع بعض الباحثين إلى القول باستحالة الفصل بين السيرة و الرواية.
أشرْنا في مستهَلّ هذه المقالة إلى أن هناك دارسين يعتبرون نص “الزاوية” أولَ رواية مغربية. و هذا الرأيُ يحتاج إلى نظر و تدقيقٍ! و الحق أن ذاك النصَّ ليس سابقاً في هذا الميدان، بل مسبوقاً بنصّين على الأقل. يقول د. عبد الرحمن بوعليّ: “في المغرب لم تظهر الرواية الأولى و هي رواية “الرحلة المراكشية أو مرآة المساوئ الوقتية” لمحمد المؤقت إلا في سنة 1930، تبعتها بعد ذلك رواية “الزاوية” و هي الرواية الفنية الأولى لصاحبها التهامي الوزاني سنة 1942″.(23) و هناك نصٌّ آخرُ صدر عام 1941م؛ أي قبل صدور “الزاوية” بسنةٍ، و يتعلق الأمرُ برواية “طه” للروائي المغربي أحمد الحسن السكوري…!
الهــــوامش:
1- إدريس الناقوري: الرواية المغربية: مدخل إلى مشكلاتها الفكرية و الفنية”، دار النشر المغربية، ط.1983، ص61.
2- نفســــه، ص63.
3- التهامي الوزاني: الزاوية، مطبعة الريف، تطوان، ط.1، 1942، ص1.
4- أي طريق الصوفيين و التصوّف.
5- نفسه، 18.
6- أحمد اليبوري: دينامية النص الروائي، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الرباط، ط.1، 1993، ص27.
7- نقلاً من كتاب “روائية السيرة الذاتية” لمحمد أقُضاض، المعهد المغربي للكتاب، وجدة، ط.1، 1998، ص4.
8- مجدي وهبه و كامل المهندس: معجم المصطلحات العربية في اللغة و الأدب، مكتبة لبنان، بيروت، ط.1979، ص54.
9- محمد أقضاض: روائية السيرة الذاتية، م.س.، ص5.
10- عبد السلام الطويل: التجربة الأدبية عند محمد شكري، مجلة “آفاق” المغربية، ع.67، 2002، ص ص 201-202.
11- محمد أقضاض: روائية السيرة الذاتية، م.س.، ص17.
12- محمد قاسمي: بيبليوغرافيا الرواية المغربية، دار النشر الجسور، وجدة، ط.1، 2002، ص82.
13- عبد الحميد عقار: الرواية المغاربية، شركة النشر و التوزيع المدارس، البيضاء، ط.1، 2000، ص170.
14- نفســــــه.
15- عبد الرحيم مودن: الشكل القصصي في القصة المغربية، منشورات عكاظ، الرباط، ط.1997، 2/148.
16- عادل الفريجات: الروائي المغربي محمد شكري و سيرته الذاتية الروائية، مجلة “آفاق” المغربية، م.س.، ص175.
17- نفســــه.
18- فاضل جهاد: أسئلة الرواية، الدار العربية للكتاب، ليبيا- تونس، د.ت.، ص205.
19- إدموند عمران المالح: مقال “حياة حكاية لا حكاية حياة (ملاحظات حول السيرة الذاتية)”، تر: محمد برادة، ضمن كتاب “الرواية المغربية بين السيرة الذاتية و استيحاء الواقع”، من منشورات جريدة “الاتحاد الاشتراكي”، ط.1، 1985، ص7.
20- محمد أقضاض: روائية السيرة الذاتية، م.س.، ص21.
21- البشير القمري: مقال “حول الكتابة الروائية في (الأفعى و البحر) لمحمد زفزاف”، ضمن كتاب ” الرواية المغربية بين السيرة الذاتية و استيحاء الواقع”، ص34.
22- إدموند عمران المالح: مقال “حياة حكاية لا حكاية حياة…”، ص7.
23- عبد الرحمن بوعلي: المغامرة الروائية، من منشورات جامعة محمد الأول بوجدة، ط.1، 1996، ص7.
مواضيع مماثلة
» الواقعية الجديدة في الأدب العربي الحديث
» تقديم لكتاب " الأدب و الغرابة " لعبد الفتاح كيليطو
» “الحداثة النقدية في كتاب” الأدب والغرابة” لعبد الفتاح كيليطو”
» تقديم لكتاب " الأدب و الغرابة " لعبد الفتاح كيليطو
» “الحداثة النقدية في كتاب” الأدب والغرابة” لعبد الفتاح كيليطو”
ثانوية ابن خلدون التأهيلية ببوزنيقة :: الدروس :: 1AB :: الشعب الأدبية :: مادة اللغة العربية :: المؤلفات
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى